آخر الأخبار
 - الحديث عن العلمانية هو حديث يأتي في سياق الدعوة الى الاصلاح والديمقراطية على خلفية ثورات الربيع العربي، ووصول الاسلاميين الى الحكم، مما اعتبر عند البعض من انصار التيار الاسلامي عودة الأمّة الى دينها، وزوال العلمانية التي كانت تمثلها الانظمة المستبدة طوال العقود الماضية.

الثلاثاء, 17-نوفمبر-2015 - 00:37:00
الإعلام التقدمي -
الحديث عن العلمانية هو حديث يأتي في سياق الدعوة الى الاصلاح والديمقراطية على خلفية ثورات الربيع العربي، ووصول الاسلاميين الى الحكم، مما اعتبر عند البعض من انصار التيار الاسلامي عودة الأمّة الى دينها، وزوال العلمانية التي كانت تمثلها الانظمة المستبدة طوال العقود الماضية.


اتخذت العلمانية ضمن النقاش الفكري في الفضاء العربي عدد من التمظهرات والتحديدات التي احتلت مع الوقت التعريف النهائي للعلمانية، فهي تعني عند الاسلامي عنوانا للفساد وأداة تغريب للمجتمعات الاسلامية ،وعند انصارها هي دعوة الى العقلانية والديمقراطية وحقوق الانسان ،تم التعامل مع المفهوم على اساس الفصل بين الدين والدولة، وانطلاقا من هذا التعريف المختزل دارت الحوارات بين الاسلام والعلمانية وصور التعارض بينهما ،وفي اثناءها تم اهمال عدد من الجوانب ذات الصلة بالسياق التاريخي لتطور المفهوم، والمظاهر السيمانتيه له لصالح الصراع بين الهوية والحداثة ،بين الاصالة والتجديد، وفي ظل تطورات الربيع العربي يتحتم تجديد الكلام حول عدد من المفاهيم الفكرية ،خصوصا مع تنامي الطائفية كما نراها واضحة جلية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وعودة الاصوليات الدينية في اوروبا لا انبعاث ديني كما صوره بعض المفكرين الغربيين في العقدين الاخرين أمثال بيتر ل برجر ونوريس وانجلهارت وغيرهم، لكنها كشكل من اشكال التعصب الديني في الغرب.


ومع تصدر وبروز ظاهرة الطائفية في المنطقة العربية، ومع تعدد وانقسام التيارات الممثلة للإسلام وادعاء كل منها التعبير باسم الدين الحق ،يحق لكل مهتم بمفردة الاصلاح في المنطقة أن يتساءل عن المسارات المثلى للتعايش بين المكونات المذهبية والطائفية، واقرب المسارات لتحقيق هذا التعايش هو العلمانية، واعادة البحث عن هذا المفهوم لجهة السمات الجوهرية للعلمانية بعيدا عن أي مفاهيم أخرى قد تتوحد معها لكن لا يمكن ادراجها ضمن الجوانب الثابتة للمفهوم.


نعم تتعد صور العلمانية كما تتعدد صور التعبير عن الحل الديني، لكن الفرق في العلمانية انها لا تتدعي اتصالا بوحي السماء ،ولا تحاكم الناس وتتحكم بأرواحهم بمجرد الاختلاف الديني، وان كان نموذج العلمانية الفرنسية قد يغري البعض بالحديث عن استبداد علماني الا ان هذا النموذج لا يعتبر هو النموذج المثالي والنهائي للعلمانية، ايضا مفهوم الفصل بين الدولة والدين هو الاخر ليس هو التعريف النهائي للعلمانية بحكم ارتباطه بالثورة الفرنسية التي افرزت ما يسمى بالعلمانية الصلبة، او العلمانية الشاملة كما سماها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري.


ليست العلمانية مشروع فكر كما يدعي انصارها ودعاتها ويربطون بينها وبين العقلانية والديمقراطية وحقوق الانسان، كما بالمقابل ليست رمزا وعنوانا للفساد والتغريب كما يصورها الاسلاميون في سياق الصراع على الهوية ،وبالتالي لا يمكن التعامل معها بمنطق المطلق والنهائي ،بل بمنطق النسبي والمتغير لكن الخلل في دراسة السياق التاريخي وهو عامل رئيسي في توضيح ابعاد اخرى للمفهوم ادى الى التعامل مع العلمانية ضمن عنوان الصراع بين الاسلاميين وخصومهم .


فهل يمكن الاقتصار على تعريف العلمانية، باعتبارها تناقض الدين ،وانها تعني فصل الدين عن الدولة؟، وهل يطابق هذا التعريف المفهوم بصورة كامله ؟ أم انه لابد من اعادة النظر في حقيقة هذا التعريف، من خلال البحث عن سياق تطور العلمانية، حتى وصلت الى ضفاف الفكر العربي بكافة تجلياته؟


لفظة العلمانية بدأت كنعت أو صفه الى أولئك الذي لا يتحملون أي تبعة كهنوتيه ولا ينتمون الى التراتبية الكنسية ،وكان من اطلقها أسقف روما كليمنت المتوفى عام 97م، لكن المفهوم اتخذ بعد ذلك شكلا مغايرا نتيجة لتضافر اربعة عوامل رئيسيه هي تأثير الفلسفة الاغريقية كرافد ومصدر رئيسي من مصادر الفكر الغربي الذي ضمن حدوده نمى مفهوم العلمانية ،وذلك من خلال الذي عصر الاغريق الذي كان يتميز بتعدد الاله ،وما نتج عن هذا التعدد، من اعتقاد صراع وسيطرة على الكون دون الجانب الانساني، مما دعا مفكري الاغريق للبحث عن اصل اخر لتفسير الوجود ، فظهرت نظرية المثل الأفلاطونية، وعلاقة هذه المثل بالأفكار والعالم التجريبي للواقع بعيدا عن صراع الآلهة، بل رفض افلاطون قيام الشعراء بأنسنة الإلهة لمنع أي محاولة لإدخال هذه الالهة ضمن الافكار الناظمة للكون ،وساهمت الفلسفة الذرية ،التي كانت تنطلق من فكرة تركيب العالم من ذرات مادية ومتحركة في صراع لا حدود له من خلال تصادماتها، واختلاطاتها المختلفة في ابعاد أي دور ميتا فيزيقي في تكوين العالم مما هيا المجال لنشوء النزعة التجريبية مع ظهور السفسطائيين ،وتبنيهم فكرة أن الانسان معيار كل شيء، وأن الحقيقة نسبيه ومن ثم لابد من تركيز الجهود على التجربة الفردية، وما من شيء غير التجربة قادر على توفير الاساس اللازم لبلوغ هذا الهدف، وهذا العامل بجانب الاصلاح الديني بقيادة لوثر والثورة العلمية الفلسفية التي بدأها فرنسييس بيكون وتتابعت مع نيوتن وديكارت ،كثورة على ضد احتكار الكنيسة للحقيقة العلمية، وضد سيطرة فلسفة ارسطو التي سيطرت على العصر المدرسي الممتد من القرن السابع الى الرابع عشر اضافة الى نهضة الآداب الإيطالية، واخيرا نمو فكرة الدولة ذات السيادة جنبا مع ثورة الاصلاح الديني التي كانت مدعومة برغبة في الاستقلال القومي، ومن ثم بداية ظهور الدولة القومية مع التنظير لدولة الحقوق والحريات مع هوبس وجون لوك وروسو،ومونتسكيو وفولتير ،جميع هذه العوامل تضافرت للدفع بفكرة العلمانية للصدارة فليست الكنيسة وحدها هي المسؤولة عن نشأة العلمانية، وليست الثورة الفرنسية هي من انشاتها ،فأعظم دور ممكن اسناده للثورة الفرنسية هو دورها في نحت المصطلح في عام 1871م في جريدة باتريك بصدد السجال حول مكانة التربية الديني في التعليم، ثم دخوله عام 1873 م الى المعاجم ليشير الى ما ليس دينيا، وتجذر بقانون عام 1905م بشأن فصل الدولة عن الكنائس، ومع ذلك تعتبر العلمانية الفرنسية أشد أشكال العلمانية تصلبا.


وجد عدد من المفكرين الغربيين من بحث “مفهوم العلمانية”، بعيدا عن تأثير الثورة الفرنسية وعلاقتها الحادة بالدين، كالحديث عن المفاهيم التي تعتبر ضمن أدبيات العلمانية ،مثل حرية الضمير ،والمساواة على ما نجده عند عالمة الاجتماع الفرنسية “جاكلين كوستا لاسكو”،أو الربط بتاريخ الدولة كما يراه مارسيل غوشيه في كتابه الدين في الديمقراطيه،أما موريس باربييه فيتعامل مع المفهوم لجهة علاقته بالدين، ليثبت أن العلمانية ليست رفضا للدين، وليست مجرد تمييز بين روحي وزمني وليست عقيدة أو ايدلوجيا، وليست عقدا اجتماعيا بل هو مفهوم يقوم على فصل الدولة عن الدين لكن بشرط حياد الدولة اتجاه النشاط الديني .وتحرير الدولة من سلطة المؤسسات والرموز الدينية.
بكل هذه الحمولة الفكرية دخل مفهوم العلمانية الى العالم العربي ،تحت تأثير هاجس التقدم، التمدن في القرن التاسع العشر، وبدأ من خلال مشروع الاصلاحات العثماني، ومثلت عدد من الافكار والمبادئ المرتبطة بالعلمانية هاجس أو مطالب عند المفكرين العرب المسيحين، آلا ان النقاش حول المفهوم لم يستقر الا في العقدين الاخرين تحت تأثير نمو الاصولية الاسلامية ممثلة بالثورة الايرانية، والصحوة الاسلامية وابتداء من هذه اللحظة دارت نقاشات بين التيار الإسلامي وبين تيار يقدم نفسه كتيار صاحب مشروع علمانية كمفهوم يطابق بشكل تام بين مفهوم العقل والحداثة والتقدم والتنمية ،وبين هذا النقاشات ما يمكن اعتباره دراسة لماهية العلمانية، وشروطها الضرورية، فظهرت كتابات المسيري وعادل ضاهر وعزيز العظمة وجلال صادق العظم، وبرهان غليون، وتنوعت هذه الكتابات بين كتابات تتجه نحو اضفاء معنى سلبي وثابت وشامل للعلمانية كما لدى عبد الوهاب والمسيري وتمييزه بين العلمانية الشاملة والجزئية واعتبار الاولى هي العلمانية المسيطرة حاليا على العالم المعاصر، الى تمجيد المفهوم ومطابقته مع العقل والايمان بقدرة على الاستقلال المعرفي والقيمي عن الدين.



كيف يمكن فهم العلمانية اليوم؟

تساؤل تحاول هذه المقالة الاجابة عليه، في ضوء الحوار حول الاصلاح في المنطقة ودور الطائفية بما انها تشكل ابرز التحديات امام مشروع الاصلاح، فالعلمانية عند انصارها هي مشروع خلاص، وعند الاسلاميين اداة فساد وتغريب ،فأي من هذه المواقف اقرب للصواب؟


لاشك ان غموض مفهوم العلمانية شجع الدعوة لترك المفهوم واستبداله بالديمقراطية او العقلانية كما يرأى الجابري، لكن خطورة غموض المفهوم لا يقارن بجملة المفاهيم والقناعات التي استقرت لدى الفريقين المؤيد والمعارض، مثل تعريف فصل الدين عن الدولة دون ادراك مثلا ان هذا الفصل هو نسبي ومتغير ولا يملك أي صفة معيارية ،قد يكون الحل في بعض المجتمعات التعددية هو فرض العلمانية لكن لا تناسب مجتمعات اخرى متجانسة دينيا ولعل تجربة تركيا هي ابرز مثال على فشل فرض العلمانية.
ايضا ربط العلمانية بمظاهر او دعوات معينه ،هي وجه اخر من وجوه التعامل السلبي بالعلمانية، والتي تمثل احد تجليات الفهم لدى الصحوة الاسلامية التي عانت من ضعف واضح في ملكة النقد نتيجة للخلط الواضح بين الدين كمجموعة عقائد وثوابت اختلاقيه وبين التراث كمعطى زمني واعطاء فقه السلف دورا حاكما في متغيرات الواقع، ما هو المنطق مثلا في ربط العلمانية بالدعوة الى قيادة المرأة للسيارة، والاختلاط، وجواز كشف الوجه للمرأة، وغيرها من القضايا الفقهية والمطالبات الاجتماعية؟

ليست العلمانية في نهاية المطاف سوى فكرة لإدارة وتنظيم التعدد الفكري والاثني والطائفي وفق مشتركات وطنية ،فالمطلوب هو تدين المجتمع وعلمانية الدولة.
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)