آخر الأخبار
 - أيّ عَلمانيّةٍ هي… تلك التي نَنْشد، جيلاً بعد جيل… منذ أن لامَسَتْ أنوار التغيير في القرن التاسع عشر ونظرياته الناخعة… وَعْيَنا العائد من سُباتٍ قسريّ دام قروناً عدَّة…!؟

الأربعاء, 13-مايو-2015 - 10:23:29
الإعلام التقدمي -


 
أيّ عَلمانيّةٍ هي… تلك التي نَنْشد، جيلاً بعد جيل… منذ أن لامَسَتْ أنوار التغيير في القرن التاسع عشر ونظرياته الناخعة… وَعْيَنا العائد من سُباتٍ قسريّ دام قروناً عدَّة…!؟

أيّ عَلمانيّة هي عَلمانيّتنا… من شبلي شميِّل وفلسفة النشوء والإرتقاء، وفرح أنطون وفلسفة إبن رشد، إلى صادق جلال العظم ونقد الفكر الديني ونصر حامد أبو زيد والتفكير في زمن التكفير وﭘول خوري ونقد المقدَّس ومهدي عامل وغيرهم ممن تزيَّنَتْ بمحاولاتهم الفكريَّة الرائدة مكتبتنا المعاصرة، قبل أن يحترق جزءٌ منها بنيران فكر ظلاميّ عائدٍ من كهوف التاريخ.

أيّ عَلمانيّة هي عَلمانيّتنا… من الطهطاوي ومناهجِه إلى عبدالله العلايلي وتصحيحه، ومن طه حسين ونقده الشعر الجاهلي إلى رئيف خوري وفكره الحرّ… وكلِّ ما ساهمْتُم، أنتم، أيها الشيوعيون، بابرازه عبر حسين مروة ونَزَعاته الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، إلى محمد دكروب ووجوهه التي لا تموت…!؟
أيعقل ألاّ يبقى لتلك المسارات المتقدّمة في تراثنا الفكري الحديث والمعاصر، بما فيها بعض النظريات القوميَّة وإيجابيَّاتها، من أثَر، في زمن أقلّ ما يقال فيه إنه زمن العَوْد على بَدْء… زمنٍ يعاند مسار التاريخ والتطور والترقّي… ولا يقيم للحداثة والتقدُّم والعلم أيَّ مقام!؟

أيّ عَلمانيّة، ولو إسميَّة، قد تبقى لنا، في هذا الزمن الرؤيوي… زمنٍ يُحْتَضَر فيه كلّ شيء، من أبسط قواعد السلوك وحدود العلاقات بين الناس، إلى ما أسموه يوماً “شرعةَ الأمم”… وأيّ أمم…!؟ زمنِ الفتاوى غبَّ الطلب، والقتل الجماعيّ، بل التطهير العرقيّ، والمذهبيّ، والدينيّ، وحتى الجنسيّ… زمنِ الذبح والصلْب والرجْم والبتْر والسبي والإبتزاز… وما إلى ذلك من طقوس الجريمة التي فاقَتْ، وعلى أيدي من يدَّعون أنهم عبَّاد الرحمن، كلّ ما أدركَتْه البشريّة، عبر مسارها، من شراسةٍ وبربريَّةٍ وهمجيّةٍ ووحشيّةٍ، قد تجعلنا، وفي لحظة ذاتويَّةٍ، نشكّك بمنظومات القيم كلِّها، من أدناها إلى أسماها، بل بمفاهيم الخير والحقِّ والعدل وما إليها من فضائل وقيم… لنبْلغ في شكِّنا البنيَة الدينيّة للجماعات كلّها.
من زمن الأحلام الكبيرة إلى زمن التصحّر والخيبات… السؤال هو نفسه… واللاجواب: أيّ مجتمع نريد أن نكونه في هذه المنطقة من العالم…!؟ وأيّ إنسانٍ تراه يكون إنساننا!؟

بعضنا حسم الخِيار وعاد بنفسه وبالمجتمع عدَّة قرونٍ إلى الوراء. وبعضنا الآخر ينتظر على الحافة، مكبَّل اليدين، مسلوب الإرادة والقرار… يردّد مقولاتٍ في الحداثة وتجدّد المجتمع، قد تبدو للبعض وكانَّها من كوكبٍ آخر… تماماً كبكائيّات هذا الزمن… وأزمنةٍ أخرى… بكائيّات، قد تعيدنا إلى نقطة البداية… لكن، وللأسف، دون أن تنجلي الحقيقة في وجداننا أو يتصحَّح المسار.
أرجو ألا يَعْتَبِرَنَّ أحدُكم، واستناداً إلى ما تقدَّم، بأني مُفْرِط في التشاؤم… عندي، أن التاريخ تطورٌ خلّاق… والشعوب، ومهما جارت الأيام وتعاظمت الأحداث، لا بد أن تستفيق على مصالحها، وتحقِّق بالتالي الما – يجب – أن – يكون.

في أي حال، سوف نتناول موضوع العَلمانيَّة في نقطتين أساسيَّتين:

الأولى، في تحديد العَلمانيّة/ مع ملاحظات حول مفهوم الديمقراطيّة العَلمانيّة.

الثانية، في إمكان تحقّق العَلمانيّة وقونَنَتها/ أو نحو تحقيقٍ علمانيٍّ للبنان.



أولاً، في تحديد العَلمانيّة

ملاحظات حول مفهوم الديمقراطيّة العَلمانيّة
1.دعْ عنْكم من اعتباري “أن الديمقراطيَّة قد تكون اليوم من التسميات الملتبسة التي اتَّخذتْها وتَتّخذها شريعة الغاب في الأزمنة الحاضرة” [على هامش النص، المقدمة]… أفلا تستدعي مقولة “الديمقراطيَّة العَلمانيَّة” الإقرارَ ﺑ”ديمقراطيَّة دينيَّة”… و”ديمقراطيَّة توافقيَّة” وما سوى ذلك من طقوس – قَلْبِ – المفاهيم، أو الأخطاء الشائعة… أوَليس من الأفضل الإعتبار أن العَلمانيّة (بفتح العين) هي صفة للديمقراطيَّة الحقَّة… واستطراداً، القول بأن لا ديمقراطيَّة غير عَلمانيّة…!؟

2.أما عن تحديد العَلمانيّة، فبالإضافة إلى الإلتباس الحاصل لدى البعض، لجهة ربْطها بالعِلْمَويّة (بكسر العين)… أو حتى بالإلحاد كما يسوِّق البعض الاخر، فإنها تعني، وببساطة كليَّة، حياد الدولة الطائفي…

3.ليس خافياً على أحد بأن مصطلح “عَلماني” مُسْتَقْدم من التراث المسيحي في أوروبا حيث كان المجتمع، ومنذ أواخر القرون الوسطى، منقسماً إلى رجال دين وعَلمانيّين… فهؤلاء، أي العَلمانيّون، وبكل بساطة، هم المؤمنون الذين ليسوا برجال دين…

4.أما الغاية من زرع فكرة العَلمانيَّة، فهي بلوغ حالة “المواطنة” أي المجتمع الذي لا تتعدّد فيه الولاءات… فهي على المستوى الجمعي، كما مفهوم “التسامح” على المستوى الفردي… وقد أنهَتْ أزمنة من الحروب الدينيَّة التي شلَّعت أوروبا على مدى أربعة قرون من الزمن… ناهيك بما كان عليه الصراع على السلطة بين الكنيسة والدولة.

5.لا بد لنا من التمييز بين العَلمانيَّة Laïcité والعَلمانويَّة Laïcisme. فإذا كانت العَلمانيَّة تعني حياد الدولة الطائفي، فالعَلمانويَّة هي عقيدة فلسفيَّة تتضمن مفهوماً مادياً للفرد وللمجتمع. وإذا كانت العَلمانيَّة قد سعَت، ومنذ بداية تحقُّقها في بعض المجتمعات الغربيَّة – في فرنسا بصورة خاصَّة – الى تحقيق سيادة الدولة في المجال الزمني وإدارتها المجتمع الوضعي- لجهة علاقتها بالكنيسة أو السلطة الروحيَّة؛ فالعَلمانويَّة هي فلسفة شموليَّة إلحاديَّة، عرفتها بعض الأنظمة السياسيَّة، في القرن العشرين.



ثانياً، في إمكان تحقّق العَلمانيّة وقوْنَنَتها

أو نحو تحقيق عَلماني للبنان
1.تحقَّقَتْ الدولة العَلمانيَّة، قل الحديثة، في فرنسا بصورة خاصة عام 1905… وإذا كان هذا التحقّق ترافق مع أحداث دامية طاوَلَت رجال الدين وممتلكاتهم، فإن أحداً من منظِّري تلك الحقبة، لم يَدْع إلى وجوب “عَلْمَنة الإنسان والمجتمع والتاريخ”، بمن فيهم أولئك الذين نظَّروا “للأخلاق العلمانيَّة”… فالحديث كان يتركز بشكل اساسي حول “التمييز بين الدين والدولة”، دولة “المواطنة”… التي أقرَّت بحريَّة الإنسان الفرد في معتقده، وحفظت بالتالي كرامة الشخص البشري.

2.لقد سَعَتْ مجتمعاتنا العربيَّة، في الحقبة المعاصرة، إلى تحقيق نظام سياسي يوفر العدالة والمساواة… نظام، قد أقول، إذا جاز لي، إنه شبه عَلماني – ولدينا في هذا المجال تجارب كثيرة وفي مقدَّمها التجربة اللبنانيَّة، ولو عبر ما سُمِّي “ديمقراطيَّة توافقيَّة”… والتجربة التونسيَّة، التجربة التي استردَّت أنفاسها مؤخراً – الإنتخابات التشريعيّة الأخيرة – بعد ثورة كادت تنحرف بها نحو ظلاميَّة تنتحل تسمية “النهضة”. وقد تواكَبَتْ تلك التجارب مع نهضةٍ فكريّةٍ وفَّرَتْ ما يلزم لقيام دولةٍ حديثة في عالمنا العربي، المخطوف زوراً، اليوم، من أناسٍ تتَلْمَذوا على أيدي أولئك الذين يدَّعون نشْر الديمقراطيّة في العالم.

3.إن تحقيق نظام عَلماني في لبنان ممكن إذا ما توفر له أمران متلازمان:

الأول، تحقيق قانون إنتخابي عصري وعادل على أساس النسبيَّة.

الثاني، تحقيق قانون مدني إجباري للأحوال الشخصيَّة.

ويجب ألاّ نغفل في ذلك عن مراعاة بعض الخصوصيّات التي قد تسهِّل عملياً تحقيق تلك العَلمانيَّة – فلدى بعض الجماعات تخوّف من الذوبان في ديمقراطيّة عدديّة تعطي الأرجحيَّة لسواها من الجماعات، كما لدى بعضها الآخر رفض للمساس بمنظومة القيم التي تعتمدها…الخ. من هنا تأتي دعوتنا إلى “تحقيق عَلماني للبنان”…!؟

بالطبع، فإن دون ذلك عوائق جمَّة، وأهمّها ما هو متمثّل بإقطاعٍ شرسٍ متعدِّد الرؤوس (سياسي، مذهبي، مالي وحتى عائلي)… لا يرى أي مصلحة له في تحقيق هذا النظام الجديد.

فمن المستحْسَن أن نأتمن على هذا المسار، من هو قادر منا على صياغة تلك الأفكار – ولم نُعدَم يوماً من أولئك المشترعين الأفذاذ – بلغة القوانين… القوانين التي يؤمل أن تُنهي تلك “الحالة المؤقتة” التي انهكَتْنا على مدى عقود، والتي يكاد دستورنا اللبناني أن يتأبَّد بها…

وبانتظار ذلك، لا بد لنا من المثابرة في السعي والتَمَتْرُس وراء ثقافةٍ وطنيَّةٍ إنسانيَّةٍ تؤسّس لتنشئةٍ سليمة، تقينا شتى الأخطار المحدقة بأجيالنا الطالعة، ليس فقط من “أهل الظلاميَّة والكهوف”، بل كذلك من “ملائكة النور”، أولئك الشياطين الذين حذَّر منهم بولس الرسول في كرازته من أجل “العهد الجديد”.

ليس التغيير حالة عابرة أو مجرد شعار… إنه حقيقة تاريخيَّة بل حتميَّة… صحيح أنه شاق وعسير… لكنه ممكن.
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)