آخر الأخبار
 - 
كانت هذه الحركة، المشكلة أساسا من شباب الطبقة العليا، ساذجة ومشوشة، لكنها كانت أيضا تتميز بالشجاعة ونكران الذات بشكل تام، وتركت وراءها إرثا لا يقدر بثمن من أجل المستقبل............

الثلاثاء, 30-ديسمبر-2014 - 08:03:03
الاعلام التقدمي -

ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

كانت هذه الحركة، المشكلة أساسا من شباب الطبقة العليا، ساذجة ومشوشة، لكنها كانت أيضا تتميز بالشجاعة ونكران الذات بشكل تام، وتركت وراءها إرثا لا يقدر بثمن من أجل المستقبل. وفي نفس الوقت الذي عمل فيه لينين على انتقاد الطابع الطوباوي لبرنامجهم، وجه دائما تحية حارة للبسالة الثورية التي اتصف بها النارودنيون الأوائل. لقد فهم أن الحركة الماركسية في روسيا قامت على ما راكمه هؤلاء الشهداء، الذين تخلوا بقناعة عن الثروة ووسائل الراحة لمواجهة الموت والسجون والمنفى للكفاح من أجل عالم أفضل. كان من المتوقع وجود الارتباك النظري في حركة كانت ما تزال في مهدها. إن غياب طبقة عاملة قوية، وعدم وجود أية تقاليد واضحة أو نموذج من الماضي ليضيء طريقهم، وليل الرقابة المظلم الذي منعهم من الوصول إلى معظم كتابات ماركس، كل هذا حرم الشباب الثوريين الروس من فرصة فهم الطبيعة الحقيقية للسيرورات التي تجري في المجتمع.

كان معظم الشباب ينظرون إلى ماركس باعتباره "مجرد اقتصادي"، في حين أن عقيدة باكونين حول "التدمير الحازم"، ودعوته إلى العمل المباشر، كانت تبدو أكثر انسجاما مع روح جيل تعب من الكلام ويتحرق شوقا للنتائج. يتذكر بافل أكسلرود، في مذكراته، كيف أن نظريات باكونين اجتاحت عقول الشباب الراديكالي ببساطتها الشديدة[1]. "الشعب"، وفقا لباكونين، كان ثوريا واشتراكيا بالفطرة، منذ العصور الوسطى، مثلما يتضح من انتفاضة بوغاشوف (Pugachov)، وحتى قطاع الطرق، الذين يشكلون نموذجا جيدا للاتباع! كل ما هو مطلوب لإشعال ثورة شاملة، كما قال، هو أن يقوم الطلاب بالذهاب إلى القرى ويرفعوا راية الثورة. الانتفاضات المحلية ستشعل فورا الحريق العام، وبذلك سينهار النظام القائم بأكمله.






ستيبان خالتورين: حداد وميكانيكي وشخصية مهمة في الحركة الثورية، من مؤسسي الاتحاد الشمالي للعمال الروس في خريف عام 1877

استعاد تروتسكي في فقرة مؤثرة روح هؤلاء الرواد الشباب قائلا: «شباب وشابات، معظمهم من الطلاب السابقين، يبلغ عددهم نحو ألف في المجموع، حملوا الدعاية الاشتراكية إلى جميع أنحاء البلاد، وخاصة في الروافد الدنيا للفولغا، حيث يوجد إرث انتفاضتي بوغاشوف ورازين[2]. تميزت هذه الحركة، التي تلفت الأنظار باتساع نطاقها ومثاليتها، التي هي المهد الحقيقي للثورة الروسية، كما هي طبيعة المهد، بالسذاجة الشديدة. لم تكن عند الدعاة لا منظمة قائدة ولا برنامج واضح. لم تكن لديهم أية خبرة تآمرية. ولماذا ينبغي أن تكون لديهم؟ فهؤلاء الشباب، بعد أن قطعوا مع أسرهم ومدارسهم، وبدون عمل ولا علاقات شخصية أو التزامات، ودون خوف من السلطات الأرضية أو السماوية، اعتبرواأنفسهم التجسيد الحي للانتفاضة الشعبية. الدستور؟ البرلمانية؟ الحرية السياسية؟ كلا، إنهم لن ينحرفوا عن طريقهم بهذه الخدع الغربية. إن ما يريدونه كان هو الثورة الكاملة، من دون انتقاص أو مراحل وسيطة».[3]

في صيف عام 1874، ذهب المئات من الشباب، المنحدرين من الطبقة العليا أو الوسطى، إلى القرى وهم يحترقون بفكرة تحريض الفلاحين على الثورة. بافل أكسلرود، الذي صار لاحقا أحد مؤسسي الحركة الماركسية الروسية، يتذكر القطيعة الجذرية التي قام بها هؤلاء الثوار الشباب مع طبقتهم: «كان على كل من يرغب في العمل من أجل الشعب التخلي عن الجامعة ونبذ وضعه المتميز وأسرته، ويدير ظهره حتى للعلم والفن. كان عليهم قطع جميع الأواصر التي ترتبطهم بالطبقات الاجتماعية العليا، وحرق الجسور وراءهم. وبكلمة واحدة: كان عليهم أن ينسوا طوعا أي طريق ممكن للتراجع. كان على الداعية، إذا جاز التعبير، إحداث التحول الكامل لجوهره الداخلي، حتى يشعر بأنه واحد من الطبقات الدنيا من الشعب، ليس فكريا فقط، بل في سلوكه اليومي المعتاد أيضا».[4]

لم يكن لهؤلاء الشبان والشابات الشجعان أي برنامج محدد، ما عدا العثور على طريق إلى "الشعب". وهم يرتدون ملابس عمل قديمة اشتروها من محلات الملابس المستعملة في الأسواق، ويحملون جوازات سفر مزورة، كانوا يسافرون إلى القرى على أمل تعلم حرفة تمكنهم من العيش والعمل دون ان يتم كشفهم. لم يكن ارتداء ملابس الفلاحين حركة مسرحية كما قد يبدو لأول وهلة. يشير كروبوتكين إلى أن: «الفجوة بين الفلاحين وبين المثقفين كبيرة في روسيا، والاتصال بينهم أمر نادر الحدوث بحيث أن مجرد ظهور رجل يلبس ثوب المدينة في القرية كاف ليوقظ الاهتمام العام؛ لكن حتى في المدينة، إذا كان شخص يظهر من كلامه ولباسه أنه ليس عاملا ووجد وهو يتحدث إلى العمال فسيثير ذلك اشتباه الشرطة فورا».[5]

للأسف تأسست هذه الروح الثورية المثيرة للإعجاب على نظريات خاطئة من حيث الجوهر. كانت الفكرة الصوفية القائلة بوجود "طريق خاص نحو الاشتراكية لروسيا"، التي يمكنها أن تقفز بطريقة ما من البربرية الإقطاعية إلى مجتمع لا طبقي، وتخطي مرحلة الرأسمالية، مصدر سلسلة لا تنتهي من الأخطاء والمآسي. النظرية الخاطئة تؤدي حتما إلى الكارثة في الممارسة العملية. كان النارودنيون مدفوعين بالارادوية الثورية، أي بالفكرة القائلة بأنه يمكن تحقيق الثورة بفضل الإرادة والعزيمة الحديدية لمجموعة صغيرة من الرجال والنساء المخلصين. إن العامل الذاتي[6]، بالطبع، حاسم في تاريخ البشرية. وقد أوضح كارل ماركس أن الرجال والنساء يصنعون تاريخهم، لكنه أضاف أنهم لا يصنعونه خارج سياق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة بشكل مستقل عن إرادتهم.

محاولات المنظرين النارودنيين لإيجاد "مسار تاريخي خاص" لروسيا، مختلف عن مسار أوروبا الغربية، قادهم حتما إلى طريق المثالية الفلسفية والنظرة الصوفية إلى الفلاحين. الارتباك النظري لباكونين، الذي كان انعكاسا للعلاقات الطبقية المتخلفة جدا وغير المكتملة في روسيا، وجد جمهورا جاهزا بين صفوف النارودنيين، الذين كانوا يبحثون عن تبرير إيديولوجي لتطلعاتهم الثورية الغامضة.

من خلال قلبه للواقع رأسا على عقب، صور باكونين المير (mir) - أي الوحدة الأساسية للنظام القيصري في القرية، كعدو للدولة. كل ما كان ضروريا هو ذهاب الثوار إلى القرية وإيقاظ الفلاحين الروس "الثوريين بالغريزة" للنضال ضد الدولة، وهكذا تكون المشكلة قد حلت دون اللجوء إلى "السياسة" أو أي شكل من أشكال التنظيم الحزبي. المهمة ليست النضال من أجل المطالب الديمقراطية (بما أن الديمقراطية تمثل هي أيضا شكلا من أشكال الدولة، وبالتالي تعبيرا آخر عن الاستبداد) بل تحطيم الدولة "بشكل عام" واستبدالها باتحاد طوعي للمجتمعات المحلية، على أساس المير، بعد تطهيره من سماته الرجعية.

لقد اتضحت العناصر المتناقضة المكونة لهذه النظرية سريعا عندما حاول الشباب النارودنيون وضعها موضع التنفيذ. فقد استقبلت النصائح الثورية للطلاب بالشك أو حتى العداء الصريح من قبل الفلاحين، الذين سلموا في كثير من الأحيان القادمين الجدد إلى السلطات.

وصف جيليابوف، أحد القادة المستقبليين لحزب نارودنايا فوليا (إرادة الشعب)، بشكل واضح جهود الشباب النارودنيين اليائسة لكسب الفلاحين قائلا: "مثل سمك يضرب رأسه في الجليد".[7] على الرغم من ظروف الظلم والاستغلال الرهيبة فإن الفلاح الروسي، الذي كان يعتقد أن "الجسد ملك للقيصر، والروح ملك لله والظهر ملك للإقطاعي" أثبت أنه محصن ضد الأفكار الثورية للنارودنيين. ويتردد صدى صدمة وخيبة أمل المثقفين في ما قاله أحد المشاركين في الحركة:


«لقد كنا مؤمنين بشكل أعمى باقتراب الثورة إلى درجة أننا لم نلاحظ أن الفلاحين لم يكونوا يمتلكون الروح الثورية التي أردناهم أن يمتلكوها. لكننا لاحظنا أنهم جميعا يريدون أن يتم تقسيم الأرض بينهم. كانوا يتوقعون أن الإمبراطور سيعطي الأمر وسيتم تقسيم الأرض... معظمهم كانوا يتصورون أنه كان سيقوم بذلك قبل فترة طويلة لو لم يتم منعه من قبل كبار ملاك الأراضي والمسؤولين، الذين يمثلون الأعداء الألداء للإمبراطور وللفلاحين على حد سواء». في كثير من الأحيان كان للمحاولة الساذجة للظهور بمظهر الفلاحين جانب تراجيدي- كوميدي، كما يتذكر ديبوغوري موكرييفيش، الذي كان أحد المشاركين في الحركة: «لم يكن الفلاحون يسمحون لنا بالمبيت عندهم ليلا: إذ من الواضح تماما أنهم لم يكونوا يحبون ملابسنا القذرة الممزقة الخشنة. كان هذا آخر ما كنا نتوقعه عندما ارتدينا في البداية على شاكلة العمال».[8]

تحطمت معنويات النارودنيين، الذين كانوا ينامون في العراء وهم يعانون الجوع والبرد والتعب، وأقدامهم تنزف بسبب المسافات الطويلة التي كانوا يمشونها بأحذية رخيصة، أمام الجدار الصلب للامبالاة الفلاحين. وتدريجيا، وبشكل حتمي، عاد هؤلاء الذين لم يعتقلوا إلى الوراء، محبطين ومستنزفين، إلى المدن. تحطمت حركة "الذهاب إلى الشعب" بسرعة بسبب موجة من الاعتقالات، حيث اعتقل أكثر من 700 عضو في عام 1874 وحده. لقد كانت هزيمة مكلفة. لكن خطب التحدي الحماسية والبطولية التي القى بها الثوار المعتقلون، في قفص الاتهام، عملت على تأجيج حركة جديدة انطلقت على الفور تقريبا.

كان النارودنيون يقسمون بـ "الشعب" في كل جملة. لكنهم بقوا معزولين تماما عن الجماهير الفلاحية التي كانوا يمجدونها. في الواقع تركزت الحركة برمتها في أيدي المثقفين. كتب تروتسكي قائلا: «لم تكن عبادة النارودنيين للفلاحين وكومونتهم سوى صورة طبق الأصل للادعاءات المتكلفة حول "البروليتاريا الفكرية" بكونها صاحبة الدور الرئيس، إن لم يكن الوحيد، كأداة للتقدم. لقد تطور كامل تاريخ المثقفين الروس بين هذين القطبين من الفخر ونكران الذات، واللتان تشكلان وجهان لعملة ضعفها الاجتماعي».[9]

لكن هذا الضعف الاجتماعي للمثقفين كان يعكس فقط الحالة المتخلفة للعلاقات الطبقية في المجتمع الروسي. كان التطور السريع للصناعة ونشوء طبقة عاملة حضرية قوية، والذي سينتج عن تدفق هائل لرؤوس الأموال الأجنبية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، ما يزال بشرى من مستقبل يبدو بعيدا. وبالتالي فإن المثقفين الذين كانوا مضطرين للاعتماد على مواردهم الذاتية، سعوا إلى الخلاص في نظرية "الطريق الروسي الخاص نحو الاشتراكية"، استنادا إلى عنصر الملكية المشتركة التي كانت موجودة في المير.

نظريات حرب العصابات والإرهاب الفردي التي أصبحت مألوفة بين بعض الأوساط في الآونة الأخيرة تكرر بشكل كاريكاتوري الأفكار البالية للنارودنيين والإرهابيين الروس. فمثلهم مثل هؤلاء الأخيرين، يحاولون إيجاد قاعدة بين صفوف الفلاحين في العالم الثالث، وبين صفوف البروليتاريا الرثة، وأي طبقة أخرى باستثناء البروليتاريا. لكن ليست لمثل هذه الأفكار أية علاقة بالماركسية. لقد أوضح ماركس وإنجلز أن الطبقة الوحيدة القادرة على إنجاز الثورة الاشتراكية وإقامة دولة عمالية سليمة، مما يؤدي إلى مجتمع لا طبقي، هي الطبقة العاملة. وهذا ليس من قبيل الصدفة. وحدها الطبقة العاملة، بحكم دورها في المجتمع والإنتاج، وخاصة الإنتاج الصناعي الواسع النطاق، من يمتلك الوعي الطبقي الاشتراكي الفطري. وليس من قبيل الصدفة أن الأساليب الكلاسيكية لنضال البروليتاريا تعتمد على العمل الجماعي الجماهيري: الإضرابات والمظاهرات والمتاريس والإضراب العام.

وعلى النقيض من ذلك، فإن المبدأ الأول لكل الطبقات الاجتماعية الأخرى هو النزعة الفردية المميزة لصاحب الملكية ومستغل عمل الآخرين، سواء كان كبيرا أو صغيرا. وإذا نحينا جانبا البرجوازية، التي يعتبر العداء للاشتراكية الشرط الأول لوجودها، نجد الطبقة الوسطى، بما في ذلك الفلاحين، الطبقة الاجتماعية الأقل قدرة على اكتساب الوعي الاشتراكي. تقف فئاتها العليا من الفلاحين الأثرياء، والمحامين والأطباء والبرلمانيين، على مقربة من البرجوازية. لكن حتى الفلاحين الفقراء الذين لا يملكون أرضا في روسيا، وعلى الرغم من أنهم يشكلون في الواقع بروليتاريا ريفية، كان وعيهم متخلفا جدا عن وعي إخوانهم في المدن. كانت الرغبة الوحيدة عند الفلاح الذي لا يملك أرضا هي امتلاك الأرض، أي أن يتحول إلى مالك صغير. إن الإرهاب الفردي و "حرب العصابات" بأشكالها المتعددة، هي أساليب البرجوازية الصغيرة، وخاصة الفلاحين، لكنها أيضا أساليب الطلاب والمثقفين والبروليتاريا الرثة. صحيح أنه في ظل ظروف معينة، وخاصة في عصرنا الحاضر، يمكن كسب جماهير الفلاحين الفقراء إلى فكرة الملكية الجماعية، كما رأينا ذلك في إسبانيا عام 1936، لكن الشرط المسبق لمثل هذا التطور هو وجود حركة ثورية للطبقة العاملة في المدن. وصلت الطبقة العاملة الى السلطة في روسيا عن طريق تعبئة الفلاحين الفقراء، ليس على أساس شعارات اشتراكية، بل على أساس "الأرض لمن يزرعها!". هذا الواقع، في حد ذاته، يظهر إلى أي مدى كانت جماهير الفلاحين الروس بعيدة عن الوعي الاشتراكي حتى في عام 1917.

بالنسبة للنارودنيين، الذين كانوا يفتقرون إلى الأساس النظري السليم وينطلقون من مفهوم مرتبك وغامض عن العلاقات الطبقية ("الشعب")، كان الموقف الماركسي حول الدور القيادي للبروليتاريا يبدو وكأنه مجرد كلام فارغ. "ما علاقة الطبقة العاملة بهذا؟"، "لا بد أن ماركس وإنجلز لم يفهما الوضع الخاص بروسيا!". وحتى عندما كان النارودنيون يعطون اعتبارا لدور العمال في المدن، فإنهم كانوا ينظرون إليهم وكأنهم مسخ، وكأنهم "فلاحون في المصانع"، قادرين فقط على لعب دور المساعدين للفلاحين في الثورة، أي على العكس تماما مع العلاقة الحقيقية للقوى الطبقية الثورية، كما أثبتت الأحداث اللاحقة.

وكتتويج للمفارقة، فإنه على الرغم من كل أحكام المنظرين النارودنيين، كانت المنطقة الوحيدة تقريبا التي وجدت فيها النداءات الثورية صدى لها هي بين صفوف "فلاحي المدن" المحتقرين، كما كانوا يسمون عمال المصانع. ومثل مغاوير حرب العصابات الحديثة، نهج أنصار Zemlya i Volya (الأرض والحرية) سياسة سحب العمال الثوريين من المصانع وإرسالهم إلى الريف. بليخانوف، قبل أن يصبح ماركسيا، شارك في هذا النوع من النشاط، وكان قادرا على رؤية العواقب، وقد كتب أن: «عامل المصنع، الذي عمل في المدينة لعدة سنوات، لم يكن مرتاحا للعودة إلى الريف، وكان يذهب إلى هناك على مضض... فقد أصبحت عادات الريف ومؤسساته لا تطاق بالنسبة إلى شخص قد بدأ يتطور قليلا...


«كان هؤلاء أناسا محنكين وشديدي الإخلاص ومقتنعين بعمق بالأفكار الشعبوية. لكن محاولاتهم الانغراس في الريف لم تؤد إلى نتيجة. وبعد انتقالهم بين القرى بقصد البحث عن مكان مناسب للإستقرار (حيث كان ينظر إلى بعضهم كغرباء)، استسلموا وانتهوا بالعودة الى ساراتوف حيث أقاموا علاقات مع العمال المحليين. ومهما كنا ذهولنا من هذا الاغتراب عن "الشعب" الذي يشعر به أبنائه الحضريون فإن الحقيقة كانت واضحة، وكان علينا أن نتخلى عن فكرة إشراك العمال في شؤون الفلاحين البحتة».[10]

وفقا للنظرية النارودنية كان عامل المدينة أبعد عن الاشتراكية من الفلاحين. وهكذا اشتكى منظم نارودني مسؤول عن العمل بين العمال في أوديسا من أن «الرجال في ورشات العمل، أفسدتهم الحياة الحضرية وصاروا غير قادرين على فهم صلاتهم مع الفلاحين، كانوا أقل انفتاحا على الدعاية الاشتراكية»[11]. ومع ذلك فإن النارودنيين قاموا ببعض العمل بين العمال وحصلوا على نتائج مهمة. وكان المبادر لهذا العمل الريادي هو نيكولاي فاسيليفيش شايكوفسكي. أنشأت مجموعته حلقات للدعاية في أحياء العمال في بطرسبورغ، حيث كان كروبوتكين واحدا من الدعاة. لقد أجبر الواقع قطاعات من النارودنيين على أن يقفوا لأول مرة وجها لوجه أمام "المسألة العمالية" التي طردتها نظريات باكونين من الباب الأمامي، فعادت للدخول من خلال النافذة. وحتى في هذه المرحلة المبكرة جدا، كانت الطبقة العاملة الروسية، على الرغم من ضئالة عددها، قد بدأت تضع بصمتها على الحركة الثورية.

كان موقف العمال من هؤلاء "السادة الشباب" مفيدا. أوصى العامل البطرسبورغي إ. أ. باشكين زملائه العمال قائلا: «عليكم أن تأخذوا الكتب من الطلاب، لكن عندما يبدأون في تعليمكم الترهات، عليكم طردهم». ربما كان بليخانوف يفكر في باشكين عندما أبدى ملاحظته حول عدم رغبة العمال في الذهاب إلى الأرياف للعمل. اعتقل باشكين في شتنبر 1874، وعند إطلاق سراحه في عام 1876 قال لبليخانوف: «ما زلت على استعداد، كما من قبل، للعمل من أجل الدعاية الثورية، لكن فقط بين العمال... لا أريد أن أعود إلى الريف بأي شكل من الأشكال. إن الفلاحين مجرد غنم، إنهم لن يفهموا الثورة أبدا».[12]

وفي حين كان المثقفون النارودنيون يتصارعون مع المشاكل النظرية للثورة المستقبلية، كانت البشائر الأولى للوعي الطبقي آخذة في الظهور في المراكز الحضرية. كان انعتاق الأقنان يمثل عملا جماعيا للعنف ضد الفلاحين في مصلحة تطور الرأسمالية في المجال الفلاحي. كان الملاكون العقاريون، في الواقع، "يطهرون العقارات" لصالح الرأسمالية، كما أوضح لينين، ويسرعون عملية التمايز الداخلي للفلاحين من خلال تبلور فئة من الفلاحين الأغنياء (الكولاك) في القمة وكتلة من الفلاحين الفقراء في القاع. ومن أجل الهروب من الفقر المدقع في الريف، هاجر الفلاحون الفقراء بأعداد ضخمة إلى المدن، بحثا عن فرص عمل. في الفترة ما بين 1865 و1890، ارتفع عدد العاملين في المصانع بنسبة 65%، وارتفع عدد العاملين في قطاع التعدين بنسبة 106%. يعطي أ. ج. راشين الأرقام التالية عن عدد العمال في روسيا الأوروبية:[13]

المجموع التعدين المصانع والورشات السنة
674 165 509 1865
1180 340 840 1890

عرف تطور الصناعة دفعة قوية، خاصة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. ارتفع عدد سكان سان بطرسبرج من 668.000 في عام 1869 إلى 928.000 في عام 1881. هؤلاء العمال الذين انتزعوا من جذورهم الريفية وقذف بهم في مرجل حياة المصنع شهد وعيهم تحولا سريعا. وقد عكست تقارير الشرطة تصاعد السخط والجرأة بين صفوف القوى العاملة، ويقول أحد هذه التقارير: «إن الأساليب القاسية والمبتذلة التي يستخدمها أرباب المصانع أصبحت لا تطاق بالنسبة للعمال، لقد أدركوا بوضوح أنه لا يمكن تصور المصنع دون عملهم». قرأ القيصر الكسندر التقارير وكتب بقلم الرصاص في الهامش: "سيئة جدا".

سمح نمو هذه الاضطرابات العمالية بإنشاء أول مجموعات العمال المنظمة. تأسس اتحاد عمال الجنوب على يد أ. زاسلافسكي (1844-1878). ابن عائلة نبيلة أفلست، ذهب "نحو الشعب" ما بين 1872 و1873، وبعد أن أصبح مقتنعا بعدم جدوى هذا التكتيك، بدأ العمل الدعائي بين العمال في أوديسا. من هذه الحلقات العمالية، التي كانت تعقد اجتماعات أسبوعية وبأعداد قليلة، ولد الاتحاد. انطلق برنامجه من فرضية أنه «لا يمكن للعمال الحصول على الاعتراف بحقوقهم إلا من خلال ثورة عنيفة قادرة على تدمير كافة الامتيازات واللا مساواة من خلال وضع الأساس للرعاية الخاصة والعامة»[14]. تطور نفوذ الاتحاد سريعا حتى تحطم باعتقالات دجنبر 1875. حكم على الزعماء بالأعمال الشاقة. وحكم على زاسلافسكي بعشر سنوات، تقوضت حالته الصحية بسبب الظروف القاسية في السجن، فأصبح مختلا ومات بمرض السل في السجن.

التطور الأكثر أهمية كان هو الاتحاد الشمالي للعمال الروس، الذي تأسس بشكل غير قانوني في خريف عام 1877 بقيادة خالتورين وأوبنورسكي. فيكتو أوبنورسكي، ابن ضابط صف متقاعد، كان حدادا ثم صار ميكانيكيا. وبينما كان يعمل في مصانع مختلفة في سانت بطرسبرغ، أصبح يشارك في حلقات العمال الدراسية، واضطر إلى الهرب إلى أوديسا لتجنب الاعتقال، حيث اتصل مع اتحاد زاسلافسكي. سافر الخارج كبحار، حيث تأثر بأفكار الحركة الاشتراكية الديموقراطية الألمانية. وعاد إلى سانت بطرسبورغ، حيث التقى ب. ل. لافروف وب. أكسيلرود، القياديان البارزان في الحركة النارودنية. كان ستيبان خالتورين شخصية مهمة في الحركة الثورية أواخر السبعينات. كان مثله مثل أوبنورسكي حدادا وميكانيكيا، بدأ نشاطه داخل مجموعة شايكوفسكي، حيث عمل داعية. في سلسلة تراجمه للمناضلين العماليين الروس، قدم بليخانوف صورة خالدة لهذا الثوري العمالي:


«عندما كانت نشاطاته [خالتورين] ما تزال قانونية، التقى عن طيب خاطر بالطلاب، وحاول إقامة التعارف معهم، والحصول على كل أنواع المعلومات منهم واقتراض الكتب منهم. وفي كثير من الأحيان بقي معهم حتى منتصف الليل، لكنه نادرا ما كان يعطي آرائه الخاصة. كان مضيفه يتحمس مسرورا بحصوله على فرصة تنوير عامل جاهل، ويتحدث بإسهاب، ويشرح النظريات بالطريقة الأكثر "شعبية". ينظر ستيبان باهتمام، ويدقق النظر في المتحدث. وبين الحين والآخر تعكس عيناه الذكيتان سخرية لطيفة. كان عنصر السخرية حاضرا دائما في علاقاته مع الطلاب... لكنه مع العمال يتصرف بطريقة مختلفة جدا... ينظر إليهم على أنهم أكثر صلابة وأنهم، إذا جاز التعبير، ثوريين أكثر طبيعية ويراعيهم برفق كممرضة عطوفة. يعلمهم ويشتري لهم الكتب ويخدمهم، يحقق السلام بينهم عندما يتشاجرون ويوبخ المذنبين. أحبه رفاقه كثيرا، كان يعرف هذا، وفي المقابل قدم لهم حبا أعظم. لكني لا أعتقد أن خالتورين، حتى في علاقاته معهم، تخلى أبدا عن تحفظه المعتاد... كان لا يتحدث في الجموعات إلا نادرا وعلى مضض. كان بين عمال بطرسبورغ أشخاص يشبهونه من حيث التعليم والكفاءة، كان هناك أشخاص رأوا عوالم أخرى وعاشوا في الخارج. إن سر التأثير الهائل لما يمكن أن يسمى بديكتاتورية ستيبان يكمن في الاهتمام الدؤوب الذي كرسه لكل شيء. حتى قبل بدء الاجتماع كان يتحدث مع الجميع لمعرفة الحالة الذهنية العامة، وكان يقيم جميع جوانب المسألة، وهكذا كان بطبيعة الحال الأكثر استعدادا من بين الجميع. ويعبر عن المزاج العام»[15]. كان خالتورين مثالا نموذجيا لنوع محدد: العامل الداعية النشيط داخل الحلقات خلال المرحلة الأولى للحركة العمالية الروسية. لكن حتى هو انجر إلى الأنشطة الإرهابية في الفترة اللاحقة، ونظم محاولة مذهلة لاستهداف حياة القيصر.
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)