الإعلام التقدمي- أيمن نبيل -
حين تقع الكارثة يجب التفكير في كيفية تجاوزها، ولكن حين تستحيل الكارثة إلى مستوى الواقع الكابوسي، حيث تستطيل وتتفاقم ولا يبدو منها مخرج، يستلزم الوصول إلى الحل التفكير في التفكير ذاته؛ أي محاولة اقتراح محددات تلملم فوضى الواقع الممزق بحيث يكون التفكير في الحلول المعقولة بعد ذلك ممكنًا، وهذا هو حال اليمن اليوم. وإذا كان الحل البديهي للحرب هو السلام؛ فإن ما يجب علينا فعله ليس فقط التفكير في طرق السلام، بل أيضًا، وقبل ذلك، نقد إطار تفكيرنا في السلام، ومحاولة استكشاف أطر يمكنها تخصيب مقارباتنا للموضوع في اليمن.
أولًا: خرافات الصراع
أول ما يعرقل التفكير الواقعي عن السلام هو الخرافات المنتشرة عن حقيقة الصراع، وهذا أمر لا يستهان به؛ الانطلاق من أفكار مغلوطة عن الحرب في اليمن يصبغ المقاربات الشائعة للسلام، ويعرقل خوض نقاشات مجدية حوله. ثمة في هذه الحرب الكثير من وجهات النظر والمواقف المختلفة بل والمتناقضة، ولكن المقصود بـ”الخرافات” هي المواقف والأفكار التي لا تقوم على تحليل الواقع اليمني، بل العكس، أي إخضاع واقع الحرب إلى كليشيهات اكتسبت صفة مبادئ التحليل بسبب بساطتها وتكرارها وتنوّع قائليها وترويج الخطاب الصحفي والسياسي لقوى دولية وإقليميّة لها. هذه الخرافات متنوعة وتمس مختلف جوانب الشأن الراهن اليمني، ولكن المقالة ستركّز على ما يمس مباشرة تكوين الإطار الذي يدور داخله نقاش موضوع السلام.
أ- “حرب عبثيّة لا دخل لليمنيين بها”
في القرن الثاني عشر الميلادي، كتب الرحالة والمؤرخ ابن جبير:
“واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع. واختلاف المسلمين من دمشق على عكة كذلك وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض. وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم وهي من الأمنة على غاية وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب” (1)
كان هذا وصف ابن جبير لحال المشرق العربي في أثناء الحروب الصليبيّة وقُبيل فتح صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس. الحرب لم تغير الكثير في حياة الناس، وبقيت في المقام الأول اقتتالًا بين (أهل الحرب) أما الناس فمسار حياتهم مستمر عمومًا رغم منغصات الحرب.
هذا الحديث كان ممكنًا في زمن ابن جبير لأن البشرية آنذاك كانت لا تزال في عهد الجماعات لا المجتمعات، وفي عهد الإمبراطوريّات ولم تعرف بعد الدولة القوميّة؛ في الإمبراطوريات لا يختلف حال الجماعات عادة بشكل دراماتيكي حين تتغير السلطات والحُكّام؛ أشياء كثيرة كانت تبقى على حالها: الترتيب الهرمي للجماعات المحكومة، تنظيمها الذاتي، عدم تدخل السلطة الإمبراطورية في كيفية إدارة الجماعات المختلفة لشؤونها، وضرورة دفع المكوس والضرائب مقابل الحماية من الغزو. في الدولة الحديثة الأمر مختلف؛ الحرب، أي حرب، إذا اندلعت تصبح مباشرة حرب المجتمع الذي يتورّط فيها وتمس كل هياكله بغض النظر عن أحكام القيمة وأوصاف الحق والباطل. إحدى المشكلات الرئيسية في النقاش العمومي اليمني هو أن المجتمع ونخبه تعيش في الأطر الرئيسية للدولة الحديثة ولكنها تفكر في نفسها بل وتدرك واقعها كأنها في إمبراطورية. هذا ينسحب على نقاشنا موضوعاتٍ مختلفة مثل الوظيفة العامة، جهاز الدولة، نقد التخلف الاقتصادي والعلمي، الرؤية للتاريخ، وكذلك الحرب. في اليمن اليوم، الأطراف الرئيسية في الحرب (الحكومة، الحركة الحوثية، المجلس الانتقالي) لا تتقاتل على حيازة أرض و”خراجها” فحسب، بل أولًا على حيازة البشر الذين يقطنون الأرض، وهم اليمنيون، وهؤلاء اليمنيون هم من تطبق، وستطبق، عليهم برامج المنتصر في الحرب. برامج أي سلطة في الدولة الحديثة تخترق وتحدد كل شيء في حياة الفرد: التعليم، الصحة، العمل، التأمينات، الهوية، التدين، القوانين، المذهب، الحدود الجغرافية، الضرائب، النظام السياسي، سرد الماضي، شكل المستقبل، وحتى أبسط الحقوق الآدمية مثل الحق في السفر أو الكلام أو العمل أو الحق في صون الكرامة_ كل هذا تتقاتل على تحديده وتطبيقه على اليمنيين تلك الأطراف الثلاثة. هذا علاوة على أن الاقتتال يحدث بين يمنيين يقدرون بعشرات الآلاف (2)، وأن ملايين النازحين، وآلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والمخفيين والمنتحرين، والملايين التي كدّحتها الأطراف الثلاثة (بنسب متفاوتة) وأذلّها الفقر_ كلهم يمنيون. إن كان لأحد شأن في هذه الحرب، فهم بلا شك اليمنيون أولًا وأخيرًا؛ الاقتتال بهم، وعليهم، والمشاريع السياسية ستطبق عليهم، والضحايا، بكل التعريفات الممكنة لكلمة ضحية، منهم.
بناءً على ما سبق، لا يوجد شيء اسمه “حرب عبثيّة”، ثمة عبثية قد نراها في تفاصيل ويوميّات الحرب، في مشاهدة الموت المجاني الذي يوزًّع على الأطفال كل يوم، وفي التعذيب السادي والحقود داخل السجون والمعتقلات، ولكن الحرب ذاتها ليست عبثية مطلقًا؛ هذا صراع ليس لحيازة السلطة فحسب بل ولتحديد شروط وإمكانية وجود شعب بأسره.
ب- “حرب وكالة بين الرياض وطهران”
منذ استعار أوار الصراع الإقليمي بعد انتكاسة الثورات العربية في 2011 أصبح توصيف “حروب الوكالة” يُلاك في أفواه الخبراء الأجانب –وتلقفه منهم زملاؤهم العرب كالعادة- في المحافل المختلفة لتوصيف الصراعات في اليمن وسوريّة وليبيا والعراق ولبنان. تحمل فكرة حروب الوكالة تصورًا للمجتمعات يراها قطعانًا شاردة لا يمتلك أفرادها إرادة ويمكن تحويلها ببساطة لأدوات في صراعات عنيفة من قبل قوى أخرى “عقلانية” وذات إرادة. عادة تبدو عبارة حروب الوكالة تعاطفًا مع الضحايا، ولكنها في جوهرها ليست تعاطفًا بل شفقة على مجتمعات وأمم. والشفقة حين تخرج من حيّز الأفراد إلى حيز الجموع هي أسوأ نسخها لأن فيها نكهة عنصرية: شفقة المتعالي على السذّج الصغار الذين يُتخذون بيادق في صراعات الأقوياء الكبار. ثمة أمر مشوّق آخر في هذا السياق؛ توصيف حروب الوكالة يعطّل محاولات النقد الذاتي الواعية والواضحة؛ فإذا كانت الحرب ليست إلا صراع كبار ونحن مجرد ضحايا، فهذا يعني أن خطأنا هو “سذاجتنا” أو “تخلفنا” في أسوأ الأحوال. وهكذا، وبسلاسة ملفتة، نصبح غير مشاركين في تحمل مسؤوليات واضحة ومحددة على الحرب التي تدور رحاها بيننا وعلى أرضنا! وحينها ينبثق الحل الضبابي الغريب الذي يحبه كثيرًا قطاع واسع من “نجوم الثقافة” اليمنيين وهو العبارة السحرية “التخلص من التخلف”. هذا أحد المداخل التي يدلف منها بعض الكتاب والمحللين اليمنيين للتهرب من إجراء نقاش عقلاني صارم بخصوص الحرب يحتاج شجاعة أدبية ونقدًا ذاتيًا وشعورًا بالواجب، والذهاب لنقاش قضايا غريبة وأحيانًا هامشية بعيدة عن قضية الحرب والسلام وبناء المجتمع والدولة في اليمن، وادعاء الصرامة بممارسة العنصريّة على المجتمع وتعريف ذلك باعتباره نقدًا اجتماعيًا جريئًا لـ “التخلف” وبالتالي، وبطريقة غير مباشرة، نقد الحرب؛ فالأول –الذي لا نعرف له تعريفًا ولا شكلًا محددًا- حينها هو سبب الثانية.
الحرب اليمنيّة لها سياقات متداخلة، يندرج فيها السياق الإقليمي، ولكن هذا يجب ألا ينسينا للحظة أن السياق الأساسي كان التفاعلات في الداخل لا الإقليم؛ وإلا لاندلعت الحرب في عُمان أو جيبوتي مثلًا. الحرب الأهليّة في اليمن التي وصلت إلى نقطة اللا عودة بسقوط العاصمة صنعاء في يد الحركة الحوثيّة في 21 سبتمبر عام 2014 كانت الشكل المحلّي للثورة المضادة؛ حيث تحالف قطاع عريض في نظام صالح مع المليشيا الحوثيّة محاولًا بعث نظام صالح من جديد بعد أن فشلت محاولاته المتلاحقة في المرحلة الانتقالية عبر استخدام وسائل ثورة فبراير (3) في إعادة أسرة صالح إلى الحكم بشكل رسمي وإيقاف الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي انطلقت في ثورة 11 من فبراير 2011. اتخاذ الثورة المضادة في اليمن شكل الاحتراب الأهلي، ووجود مليشيا طائفيّة بالأساس في دولة حديثة، وإقدام رئيس جمهوريّة سابق على التحالف معها ووقوف قطاع واسع من حزبه وقواعده الاجتماعيّة معه في تحالفه الذي كسر كل قواعد الإجماع في المجال العام اليمني منذ 1962، ومحاولة الأحزاب والقوى السياسيّة وقطاع مهم من المثقفين تطبيع الناس مع تحالف الثورة المضادة بنكهتها الطائفيّة-الجهويّة بهدوء واستسلام ملفت _ هذا كله له جذور تخص الداخل اليمني أولًا وأخيرًا: جنينيّة الجمهورية اليمنيّة وعمرها القصير، عجز ثورة فبراير عن إنتاج تشكيلات وقيادات، أزمة شرعيّة النظام، تداخل الأسرة الحاكمة في عهد صالح مع الدولة والنظام والبيروقراطيّة والحزب بشكل يندر وجوده حتى في الملكيات المطلقة، ريف مهمل ومتخلّف اقتصاديًا ومحروم من الخدمات يحوي ثلثي السكان مع مدينة مريّفة ومنهكة نخبها شائخة لأن مؤسسات المدينة (الجامعات، أندية الشباب، النقابات، ملتقيات المثقفين) لم تعد تؤدي دورها في صناعة الأمّة وإعادة إنتاج النخب، تصحر المجتمع المدني منذ التسعينيات، اقتصاد متخلّف تباطأت عمليات تطويره بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، و “تصادف” ذلك مع تحوّله من اقتصاد ريعي يعتمد على القوة العاملة في الخارج؛ أي تصدير البشر وتحويلهم إلى كادحين، إلى اقتصاد ريعي يعتمد على تصدير النفط مستغنيًا بذلك عن السكّان ومضعفًا لوزنهم السياسي، اضمحلال البرجوازية الوطنية، قيادة نظام صالح منذ 1994 لعمليات عرقلة الهويّة الوطنيّة التي كانت قائمة منذ نضالات جيل التنوير في الشطرين في ثلاثينيات القرن العشرين، واستقالة الدولة من مهمة إنجاز الاندماج الاجتماعي الذي بدأته الجمهوريتان في الشمال والجنوب منذ ستينيّات القرن الماضي. هذه مجرد مفردات عامّة يمكن عبر استخدامها ودراستها علميًا فهم الحرب الأهلية في اليمن وبعض مساراتها.
يمكن فهم وتعيين مصالح ودوافع دعم دولة خارجيّة طرفًا داخليًا في حرب أهليّة، ويمكن فهم قدرة قوى خارجيّة على حرّف الصراع الأهلي، ولكن هذا لا يفسر الحرب الأهليّة؛ دعم دولة خارجية لا يفسر ذهاب عشرات الآلاف من البشر إلى القتال والموت.
الحرب الأهليّة إذًا هي ابنة الواقع اليمني أولًا. التضافر الذي حدث هو أن معسكر الثورة المضادة كان عربيًا وليس يمنيًا فحسب؛ والسعوديّة، الدولة الجارة لليمن، كانت قائده عربيًا. ولكن في ذات الوقت، أكثر طرف حقق المكاسب من الثورة المضادة لم يكن السعوديّة بل قوة قيادية أخرى للثورة المضادة في البلاد العربية هي إيران؛ حيث توسع نفوذها وأصبح أكثر قوة وفظاظة في المشرق العربي واليمن. إيران لم تتمدد بسبب الثورة، بل عبر الثورة المضادة، هذه الحقيقة التاريخيّة التي تُتجاهل أحيانًا في تحليل الشأن العام العربي لعبت دورًا حاسمًا في اليمن. تلاقي هذين السياقين، الثورة المضادة في اليمن ومفارقة تصادم القيادتين السعودية والإيرانية للثورة المضادة ونجاح إيران في تحقيق تقدم كبير على حساب العرب عمومًا والأمن السعودي خصوصًا_ خُصّب بحدث إضافي وهو دخول السعودية مرحلة انتقاليّة خطرة من نظام إقطاعيات بيروقراطيّة إلى ملكيّة مطلقة بصعود سلمان بن عبد العزيز إلى الحكم مطلع عام 2015.
آخر وصف يصح على الحرب الأهلية في اليمن القول إنها “حرب بالوكالة”.
ج- “الخارج يتحكّم بأطراف الحرب”
هذه فكرة تتصل بالفكرة السابقة وتبدو أحيانًا مرادفة لها، ولكن التمييز بينهما مهم في سياق موضوع السلام؛ فإذا كان الحوثي تابعًا لإيران، والحكومة تابعة للسعودية، فالسلام ممكن بالتفاهم مع تلك القوى الخارجيّة إنهاءً للحرب.
هذا تفكير عامّي لا يفرّق بين قدرة أطراف خارجيّة على الضغط على حلفائها (أو حتى أتباعها) إلى مستوى معين، وبين التحكُّم بهم. نقدًا لفكرة تحكم الخارج بالحرب يجب فحص واقع أطرافها وتقدير النسبة بين قوتها ووجودها على الأرض وبين احتياجها الداعمَ الخارجي:
–الحركة الحوثيّة يساء تقدير قوتها لأن كثيرًا من المحللين لا يتجشّم عناء دراستها ودراسة سياقها اليمني المعقّد بل يكتفي بقياسها على مليشيات تابعة لإيران في لبنان والعراق وسوريّة. الحوثيون متحالفون مع إيران وينتظمون في محورها الإقليمي، على الأقل منذ تشكله كحلف ثورة مضادة بعد 2011، وتعطي لإيران وزنًا استراتيجيًا بشكل مجّاني، ولكنها ليست تابعة ماليًا أو عسكريًا لإيران (4)؛ فهي بالتأكيد أضخم وأقوى حلفاء إيران من المليشيات العربيّة قاطبة. أولًا الحوثيّة لها اتصال بالتاريخ اليمني الحديث؛ فهي الوريث التاريخي لنظام الإمامة أيام المملكة المتوكليّة الذي قامت ضده ثورة 26 سبتمبر 1962 لبناء جمهوريّة ودولة حديثة؛ فهي إذًا ليست غريبة من حيث الجذور عن مخاض اليمن الحديث. هي استعادة لتلك الجذور وثورة مضادة لا لفبراير فقط بل ولثورة سبتمبر أيضًا؛ لأنها بعثٌ للدولة السلطانيّة الإماميّة ونظامها الطائفي_العرقي، ولكن على شكل أيديولوجيا طائفيّة عرقيّة تستخدم وسائل الحداثة (السلاح الحديث، التعليم الإلزامي، الإعلام، البيروقراطيّة). ولهذا فالحوثيّة، رغم كل المقارنات مع المملكة المتوكليّة، أكثر وعنفًا وضراوة من دولة الأئمة بكثير، ولا تشبه في ذلك المليشيات العراقية مثلًا التي لم تعرف دولتها السلطانية المتأخرة نظامًا طائفيًا-عرقيًا في مطلع تاريخها الحديث. الحوثيّة غريبة على مستوى نمط التدين وحتى التمذهب الديني الذي تتبناه وتنشره، رغم انطلاقها من الزيديّة في البداية ومحاولتها ادعاء تمثيلها، وعلى المستوى السيميائي والطقوسي (طقوس الاحتفالات، الألوان، المناسبات، معمار النصب التذكارية لقادتها وهندسة مقابر قتلاها، أساليب خلق الكاريزما لزعيمها وقادتها، طرق تحويل كبار قتلاها إلى رموز وأساطير.. إلخ)؛ هذه كلها مستوردة، وبالتفاصيل، من المجال الإيراني الذي يستخدم الدولة الحديثة في إدغام الطائفيّة بالقوميّة. الأمر الثاني الذي يميز الحركة الحوثيّة عن باقي المليشيات التابعة لإيران هو مقومات الاكتفاء الذاتي. بتحالفها مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، استطاعت الحركة الحوثيّة السيطرة على العاصمة صنعاء عام 2014، في بلد عانى من المركزية الشديدة في عهد صالح؛ أي أنها سيطرت على عصب البيروقراطية ومركز جهاز الدولة بضربة واحدة، وهذا أمر لا يزال يشكل إحدى نقاط القوة التي لا يملكها أي طرف آخر في الحرب اليمنيّة؛ الحكومة اليمنيّة مثلًا مضطرة إلى إعادة بناء جهاز الدولة من جديد إذا أرادت أن تمارس مهامها. بالإضافة إلى أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المختلفة وأرشيفات تقاريرها وعملياتها متركزة في صنعاء، وبالتالي فالحوثيّة تتفوق في الجانب الاستخباري على بقية الأطراف الأخرى، علاوة على أنها ورثت هذه الأجهزة الأمنية بكوادرها وضباطها وخبراتها التي ظلت الجمهوريّة، شمالًا وجنوبًا، تراكمها طوال نصف قرن. من جهة أخرى، تسيطر الحركة الحوثيّة على وزن ديمغرافي كبير يقدر بالملايين من السكان ولا ينافسها فيه طرف سياسي أو عسكري آخر، وهذا يمكنها من تمويل ذاتها بسهولة وبمبالغ ضخمة، ولأنها بعث للدولة السلطانيّة، لا تقوم الحركة الحوثيّة بصرف هذه الإيرادات الضخمة في الخدمة العامة، مثل شق الطرق وبناء المدارس ومشاريع المياه وتطوير القطاع الصحي أو حتى صرف رواتب الموظفين، بل تنفقها داخلها وعلى أجهزتها الخاصة والشرائح الاجتماعية الطفيليّة التي خلقتها (وعلى رأسها شريحة “المشرفين”)، وفي تمويل الحرب، كما لا تخضع نفقاتها، لأي أجهزة قانونيّة أو مسائلات شعبية أو تدقيق برلمانيّ. لإعطاء إشارة إلى قدرات الحركة الحوثية الماليّة واستفادتها من السكان الذين يقعون في مناطق سيطرتها، يكفي ذكر أنها استطاعت، بالقوة، أن تتحصل على 19 مليار ريال يمني وما يفوق الألف طن من الحبوب، من الزكاة وحدها عام 2019 (5)، هذا علاوة على موارد ميناء الحديدة، والضرائب التي تفرضها على التجار، سواءً البرجوازية الصغيرة أم كبار التجار ورجال الأعمال، والمزارعين، والرسوم التي تفرضها على المصانع، ومنافذ الجمارك على مداخل مدينة صنعاء ومدن أخرى، والتجارة النفطية، والسوق السوداء، والإتاوات المناسباتية. أضف إلى ذلك أنها الأقوى تسليحًا بين كل الأطراف اليمنيّة؛ فهي ابتلعت سلاح جيشٍ عاتٍ مرتين: المرة الأولى حين تحالفت مع صالح واستولت على سلاح الفرقة الأولى مدرّع، ثم التهمت القطاع الأقوى والأحدث تسليحًا وتدريبًا في الجيش وهو قوات الحرس الجمهوري في العامين الأولين للحرب (2015-2017)، وانتهت هذه المرحلة بالسيطرة الكاملة عليه بعد تصفية الحركة الحوثيّة صالحًا إثر محاولته الانقلاب عليها في ديسمبر عام 2017. استطاعت الحركة الحوثيّة في مرحلة التحالف مع صالح (2014-2017) وراثة ثلاثة أمور لا تقل أهمية عن السلاح: وزارة الدفاع بهيكلها ونظامها، وكوادر الجيش اليمني الفنية والهندسيّة، ودائرتي الأشغال العسكرية والتأمين الفني (ورش الصيانة) التابعتان لوزارة الدفاع، وهاتان الدائرتان مهمتان في القدرة على الصمود العسكري؛ عبرهما يتم شق ممرات للقوات وبناء المستودعات وحفر الأنفاق، وتحسين الأسلحة وإصلاحها لإعادة استخدامها واستخدام الأسلحة القديمة في المخازن، علاوة على دائرة الاتصالات والنظم (وهي دائرة استراتيجية)، والإمداد والتموين، والخدمات الطبية العسكرية. خلاصة السرد المقتضب أعلاه أن الحوثيّة ورثت دولة، بأرضها واقتصادها وبرجوازيتها ومجتمعها وجيشها وبيروقراطيتها وأجهزتها الأمنية وأرشيفاتها، وليست مجرد مليشيا قويّة. لهذا، هي أعتى بكثير من مليشيات عربيّة قوية أخرى مثل حزب الله في لبنان مثلًا.
إننا، إلى اليوم، لم نصل بعد إلى إدراك دقيق لحجم ما حدث يوم 21 سبتمبر 2014.
–المجلس الانتقالي الجنوبي هو الأكثر اعتمادًا على الدعم الخارجي ماليًا وعسكريًا، بل وحتى إداريًا يتدخل ضباط إماراتيّون في إدارة القوات المختلفة التابعة للانتقالي (6)، والإمارات العربية المتحدة هي من أنشأ قواته وميليشياته المختلفة ويتكفل بتدريبها (7) ، كما وتدعمه سياسيًا، وبهذا المعنى فالمجلس الانتقالي كتشكيل مسلح طرف صنعته قوى خارجيّة (ليس مثل الحكومة أو الحوثيين)، ولكنه أيديولوجيًا لم ينشأ من العدم؛ فرافعتاه العقائديّتان أكملتا تشكلهما وأنتجتا تعبيراتهما السياسية والحركيّة في عهد صالح ولكن بشكل منفصل وبدون تقاطعات مهمة: النزعة الانفصاليّة الشوفينية (التي وصلت إلى مستوى الممارسات العنصريّة لاحقًا)، والسلفيّة بأنواعها. كما أن لدى الانتقالي خزّانًا بشريًا كبيرًا من المقاتلين ولا يحتاج إلى دعم بشري من الخارج. ما فعلته الإمارات هو دمج الرافعتين في تشكيل واحد: مليشيات انفصالية خطابها شوفيني ومركزها سلفي. وقد كان المجلس الانتقالي في أغسطس عام 2019 على وشك استنساخ التجربة الحوثيّة بالسيطرة على الأرض والموارد والسكان وسلاح الدولة ووراثة البيروقراطية المتواضعة التي بدأت الحكومة في بنائها، ولكنه فشل في إتمام ذلك بانكسار قواته في محافظة شبوة، التي كانت مدخله الأهم للاكتفاء المالي (8) كونها محافظة نفطيّة والباب الذي سيدلف منه نحو حضرموت، المحافظة الشاسعة الغنية بالنفط وموئل البرجوازية العريقة في جنوب اليمن، ونحو المهرة، المحافظة كبيرة المساحة المحاذية لسلطنة عُمان والتي يعد منفذها البري أحد شرايين التجارة والبضائع في فترة الحرب، وهما محافظتان علاوة على منافذهما البحرية والبرية ووزنهما الاقتصادي ستخرجانه من محبسه الجغرافي في أقصى الجنوب نحو الحدود مع الإقليم وبالتالي ستمنحانه وزنًا سياسيًا ثقيلًا. ثمة إمكانيّة لتجاوز الانتقالي فشلَه مستقبلًا مع تشكيل الحكومة الجديدة بناء على اتفاق الرياض؛ فقد حصل على وزارة النقل، وهي وزارة إيراديّة مهمة بإمكان الانتقالي الاستفادة منها إذا استطاع منع تحويل إيراداتها إلى البنك المركزي وأخذها لنفسه (9)، خاصة وأن موانئ اليمن تقع تحت سيطرة الإمارات. ولا يبدو أن الانتقالي سيتخلى عن السعي وراء الاكتفاء الذاتي وتأمين مصادر الدخل وحيازة الأرض.
–الحكومة معتمدة في الدعم السياسي، والعسكري، خصوصا الطيران والسلاح الثقيل، على المملكة العربية السعوديّة؛ رغم أنها تمتلك كل أسباب الاكتفاء المالي والعسكري البرّي، ولكنها ولأسباب مختلفة، فشلت في تحقيقه بل وازدادت اعتماديتها السياسية والعسكرية على السعوديّة بمرور السنوات عوض أن يحدث العكس. رغم أنها الطرف الوحيد الذي يمتلك شرعيّة واضحة في اليمن -والمقصود هنا شرعية أمام اليمنيين- لم تستطع تنظيم ظهير شعبي تستند عليه. ومع ذلك، هي الطرف الوحيد الذي يمتلك تصورًا ديمقراطيًا ومواطنيًا واضحًا للدولة اليمنية ومجمعًا عليه من قبل كل القوى اليمنية الرئيسية، بما فيها تلك التي انقلبت عليها لاحقًا، وخزانها البشري المقاتل ضخم وجيشها هو القوة العسكرية الوحيدة في اليمن التي تستطيع الادعاء أنها مصهر شعبي بدون تمييزات طائفيّة أو عرقية أو جهويّة، كما تقف معها الأحزاب السياسية الكبرى، القومية واليسارية والإسلامية، وأخيرًا هي الحكومة المعترف بها دوليًا. بسبب فشلها في صياغة استراتيجيّة عسكرية واقتصادية تتحدد بناءً عليها علاقاتها مع حلفائها وشعبها، وتنظيم روافع اجتماعيّة واضحة، واعتمادها على حليفها السعودي، أصبحت الحكومة نموذجًا لمفارقة غريبة يكون فيها الطرف الأقوى شعبيًا ودوليًا ضعيفًا على الأرض.
خلاصة التحليل المقتضب أعلاه هو أن لمختلف أطراف الحرب الأهلية حلفاءً خارجيين، وبعضها أكثر اعتماديّة على الخارج من غيرها، ولكنها لن توقف الحرب نهائيًا بسبب ضغوط حلفائها فقط؛ أيديولوجياتها متجذرة، والأطراف المعادية للحكومة ليست مجرد مجموعات مسلحة؛ لها أذرع مدنية أو ورثت جهاز الدولة، ومقاتلوها يمنيون بعشرات الآلاف، ولديها مصادر تمويل ذاتية وكميات من العتاد والذخيرة تجعلها أقرب للجيوش منها إلى المليشيات، ولهذا فوصفها بالمليشيات، تمييزًا لها من جيش الدولة، مفيد من منظور سياسي وقانوني، ولكن يجب استعماله يمنيًا مع وعي حدوده لأنه عسكريًا غير دقيق وقد يشوش التقييم الموضوعي لقوة هذه الأطراف على الأرض.
الضغوط الخارجية قد تدفع الأطراف للتفاوض، أو تجبرها على توقيع اتفاقات جانبية هنا أو هناك، ولكنها لن تحقق سلامًا مستديمًا بدون تغييرات على الأرض تفرض صفقات سياسيّة بين الأطراف اليمنيّة.
ثانيًا: كيف نتصوّر السلام؟
“إن السلام الدائم حلم، ولكنه حلم غير جميل!”
هذه عبارة قالها هلموت فون مولتكِه قائد الجيوش البروسية وبطل حروب توحيد ألمانيا في القرن التاسع عشر. لم يعد اليوم أحدٌ يجرؤ على قول عبارة مماثلة، حتى أمراء الحروب وأنظمة الاحتلال وقادة المليشيات يتحدثون دائمًا عن السلام وضرورته؛ أصبح التعبير عن “السعي للسلام” من بديهيات المجال العام في العالم المعاصر. من هنا يبدو الصوت المرتفع الذي يتحدث عن السلام في اليمن غريبًا؛ لأن ما يفعله هو الحديث عن جمال السلام، والدخول في جدل مستعر لإثبات روعة السلام، مبتعدًا، لأسبابه الخاصة، عن مهمته الوحيدة وهي تقديم تصور واضح ومحدد وواقعي عن مشروع السلام، وغارقًا في الإنشاء، وهو إنشاء غير بليغ لأن قاموسه أجنبي، وأصحابه ليسوا أدباء.
أ- الممكنات
يجب أن ينشغل كل من يتحدث عن السلام بالإجابة على سؤال التصوّر؛ أي كيف يتصوّر السلام بشكل دقيق قدر الإمكان، على الأقل في مبادئه العامة. هكذا يمكن خوض نقاشات منتجة ويمكن نظريًا صياغة مشاريع سياسيّة بناءًا عليها. بدون تصوّر السلام بما هو عملية سياسية لها شروط وحدود وخطوط حمر وعوامل استدامة، يفقد أي حديث عن السلام قوّته الاقتراحية.
ثمة في حرب اليمن الأهلية ثلاث قوى رئيسية: الحكومة الشرعية، الحركة الحوثيّة، والمجلس الانتقالي.
إذا استبعدنا إمكانية الحسم العسكري النهائي، يمكن تخيّل تصورات السلام بين هذه القوى الثلاث مسطرةً تقع عليها ثلاث ممكنات رئيسية وكل ما بينها مركّبات منها:
-إلغاء الحكومة لذاتها وترك الشمال للحركة الحوثيّة والجنوب للمجلس الانتقالي.
-تصالح الحكومة مع الحركة الحوثية والمجلس الانتقالي مع بقاء مليشياتها وقواتها ومشاريعها وحتى مناطق نفوذها، أو ما يمكن تسميته صيغة “تعايش” بين الحكومة والمليشيات.
-رضوخ المليشيات للحكومة وتسليمها سلاحها اعترافًا بالدولة الجمهورية الموحدة مقابل مصالحات وصفقات سياسية واسعة.
ثمة آلاف التفاصيل في هذا الموضوع، ولكن الخطوط الرئيسية لأي تصور للسلام لن تبدع شيئًا آخر من خارج هذه الممكنات الثلاث ومركّباتها المختلفة. المهم هنا هو أن كل هذه الممكنات على تناقضها ستوقف الحرب بشكلها الحالي، ولكن كل واحد منها لن يحدد مستقبل اليمن فحسب بل وكذلك شروط وجوده الأولية: بقاء اليمن الموحّد أو إلغاؤه، نظامه السياسي، مساحته الجغرافية، حدوده، تركيبه الديمغرافي … إلخ، كما أن بعضها لا يلغي الحرب الأهلية الكبرى بل يفتتها إلى حروب صغيرة مبعثرة. استنتاجًا مما سبق نجد أن اختزال السلام إلى مجرد وقف الحرب بين الأطراف اليمنيّة أمر بلا معنى؛ فأي نقاش يمني لتحقيق السلام لا يجب أن ينطلق من روعة السلام وشناعة الحرب، بل من معناه السياسي بالنسبة للشعب اليمني في اليوم التالي لوقف إطلاق النار.
من المهم حين تتحدث شخصية عامّة عن السلام ان تُسأل عن الممكن الذي تتبناه من بين هذه الممكنات الثلاثة، حتى ينتهي التلاسن العقيم حول الأمر وتستطيع القوى المختلفة والرأي العام نقاشها واتخاذ موقف منها؛ اي أن يحصل حول السلام نقاش عمومي، وهو أمر غائب في اليمن.
استنتاجًا من استعراض ممكنات السلام الواقعية، نستطيع إجراء تمييز أساسي بين السلام من جهة وتخفيف معاناة الناس في الحرب من جهة أخرى. السلام مشروع سياسي يخص المستقبل، بينما تخفيف المعاناة موضوع إنساني يخص الشأن الراهن، والخلط بين الأمرين بتحويل السلام إلى ملف إنساني هو أساس كثير من المشاكل على مستوى النقاش العمومي لموضوع إنهاء الحرب ويضر بالعمل الإنساني نفسه. لنأخذ موضوع الحرب في تعز مثالًا لتطبيق هذا التمييز. الحصار الحوثي على تعز (10)، ورغم أنه سلوك إجرامي له أهداف سياسيّة، يمكن معالجته بدون إحداث تغييرات سياسيّة؛ أي بدون أن تحدث تغييرات في مناطق السيطرة على الأرض. المطلوب “سياسيًا” إيقاف الحرب الحوثيّة على مدينة تعز والمستمرة منذ مطلع 2015، وإعادة بناء المدينة ضمن مشروع سلام وطني شامل، في حين أن المطلوب “إنسانيًا” هو السماح للمواطنين والبضائع والأدوية بالدخول إلى مدينتهم مثل بقية مدن اليمن التي تشكل تخومها خطوط تماسٍ في الحرب. يمكن بضغط أممي كبير ومثابر على الحوثيين تحقيق ذلك، ولكن كل الشخصيات اليمنية “المشتغلة” بمسألة السلام التي تصر على اعتباره مسألة إنسانية لا سياسيّة، لم تتجشّم عناء تحويل قضية حصار تعز إلى قضية إنسانية لها الأولوية وتشكيل ضغط حقيقي على المبعوث الأممي السيد مارتن غريفيث بخصوصها؛ هي، كما يبدو من تحركاته وبياناته، لا تحمل أهميّة كبيرة في جدول أعماله (11). علينا أن نقارن هذا الملف الإنساني ومكانته في أجندة من يسمون أنفسهم “أصوات السلام” بمسألة عدم تعيين نساء في الحكومة الجديدة مؤخرًا وحجم التنسيق بين شخصيات من منظمات غير حكومية مختلفة والبيانات والإدانات والقدرة على تحويل الأمر إلى قضية إعلامية وصل صداها إلى وسائل إعلام غربية، وبعدد المبادرات والمنظمات والاجتماعات والفعاليات التي تتكاثر بأعداد ملفتة وتحظى بدعم مكتب المبعوث الأممي وهيئات الأمم المتحدة بخصوص “إشراك النساء والشباب في السلام”. إن عدم التمييز بين السلام والعمل الإنساني أفضل على المستوى الفردي للمشتغلين بكليهما؛ هو أولًا يضخّم من قيمة أي عمل إنساني باعتباره مشاركة في “صنع السلام”؛ مساعدة مريض على العلاج أو توفير مؤونة طعام لعائلة يغدو سلامًا! ويغدو هذا العمل الذي يقوم به كل يوم المواطنون والهيئات الأهلية والجمعيات الخيريّة وبعض التجار الوطنيين مؤهلًا لصاحبه كي يتخذ مكانه في “صناعة السلام” كمجال للعمل والترقي المهني. كما أن تفريغ السلام من السياسة والمستقبل، عنصريه الرئيسيين، يحول العجز عن تحليل الواقع واستقصائه، وعدم اتخاذ موقف سياسي، وتقديم رؤى واضحة للسلام بناءً عليهما، إلى فضيلة، وهذا أمر يوفر على صاحبه العداوات السياسيّة، ويوفر له الكثير من المرونة للتلاؤم مع أية وقائع جديدة مهما كان اتجاهها. في حين أن العمل الإنساني، والذي بإمكانه تخفيف عذابات ملايين البشر مثل فتح طريق الحوبان في تعز، تصيبه آفة معاكسة، فلا يُنظر إلا إلى جانبه السياسي، الموجود ولكن يمكن بضغط كافٍ تجاوزه، فيستثنى مباشرة لعدم رغبة بعض نشطاء السلام والعمل الإنساني التورّط في ممارسة ضغوط حقيقيّة واتخاذ مواقف خوفًا من تهمة عدم الحياد.
علاوة على ما سبق، أي تصور يستحق هذه التسمية يجب أن يعين شروطه اللازمة حتى يصبح واقعيًا، ويجب أن تكون شروطًا يمكن تطويرها إذا كانت موجودة أو خلقها إذا كانت غائبة، وليس القول مثلًا إن شرط تحقيقه هو “اقتناع كل الأطراف بعدم جدوى الحرب” أو “يجب تقديم التنازلات من جميع الأطراف”؛ فهذه ليست شروطًا بل رهانات واعظ. أي مشروع للسلام يحتاج قبولًا صادقًا به من أطراف الحرب، هذا بديهي، بينما الشروط هي تلك التي تفعّل البدهيات. مثلًا في سياق القبول بالسلام والتنازلات، الشروط هي استنتاجات من تحليل السلوك السياسي للأطراف المحليّة المختلفة طوال الحرب وتوجهاتها ووزنها على الأرض وردات فعلها على مشاريع السلام المختلفة سابقًا ودوافع ردات فعلها. حينها ستكون الشروط هي إجابة على الأسئلة التالية:
ما هو مدى استعداد كل طرف للانخراط في التصور المقدم للسلام؟
2.كيف يمكن دفع/إجبار الطرف/الأطراف المتعنتة الرافضة لهذا التصوّر على قبوله؟
3.ما هي، بالتحديد، التنازلات المطلوبة من كل طرف، وكيف يمكن، كما يثبت السلوك السياسي، دفع/إجبار الطرف الرافض لها على تقديم تلك التنازلات؟
ب- بعض ما ينبغي استحضاره
بما أن السلام مشروع سياسي مستقبلي مهموم بـ”اليوم التالي” لوقف إطلاق النار، فأي تصوّر بخصوصه عليه أن يستحضر الإقليم في جانبين:
-السياق الإقليمي للحرب. الحرب يمنيّة بالدرجة الأولى، وليست يمنيّة فحسب، وبالتالي فالسياق الإقليمي يجب أخذه بعين الاعتبار. القوى الرئيسية الداخلة في الصراع اليمني هي السعوديّة، الإمارات، وإيران. من بين هذه القوى، القوة التي يجب إيجاد حل معها بالدرجة الأولى هي السعوديّة؛ بقية القوى لا تجمعها حدود مع اليمن ولا تصل العلاقات السياسية والاجتماعيّة معها إلى تشابك وإشكالية العلاقات اليمنيّة السعوديّة. ولهذا يصعب تخيل سلام مستديم في اليمن بدون وضوح واستقرار العلاقات مع السعوديّة. هنا يجب التمييز بين التوصل إلى حلول وعلاقات جيدة بين دول عربية متجاورة ووضع مصالح الإقليم فوق المصالح الوطنية. هذا التمييز يجريه بالدرجة الأولى صناع سياسات في دولة لديها تصور واضح للأمن القومي والآفاق الواقعيّة للتنمية، ويشارك فيه الأكاديميون والخبراء والمثقفون، ويصقل ويتشكّل من خلال التجربة بالحوار والتفاهم أو حتى الصراع تحديدًا للمصالح الوطنيّة.
-الاقتصاد وإعادة الإعمار. رغم شراسة الحرب في اليمن (12)، لا يصل امتدادها بالنسبة إلى مساحة الأرض والدمار الناتج عنها، كما يمكن قياسه بنسبة الدمار في البنية التحتية وأعداد القتلى والنازحين واللاجئين والخسائر الضمنية للاقتصاد، إلى الحرب الأهلية السوريّة (13) أو حروب داعش في العراق (14). ولهذا أسباب مختلفة مثل وعورة الجغرافيا واتساع الأرياف، والتبعثر السكاني، وغيرها. بالإضافة إلى أن مناطق واسعة لم تصلها حربا 2014 و 2015، مثل المحافظات الشرقيّة، وإن وصلت إليها أمواجها الاقتصاديّة والسياسية. ورغم ما يُقال عن حصار دولي لليمن (15)، تدخل البضائع المختلفة، الأساسية وغيرها، طوال سنوات الحرب إلى البلاد عبر الموانئ والمنافذ البرية، وتحديدًا ميناء الحديدة والمنافذ البرية مع عُمان (16). من أين تنبع هذه المأساة الاجتماعية المروّعة التي يعيشها اليمنيون في ظل الحرب إذًا؟ أهم شرطين طورتهما الحرب كان توسع ممارسات الإذلال الشخصي وسياسات التكديح، في بلد شهد ثورة شعبية، وكان عشيّتها من أفقر بلاد العالم. يمكننا قياس البؤس في مجتمع متدين مثل المجتمع اليمني بنسب الانتحار؛ في عام 2016 تربع اليمن في المرتبة الثالثة عربيًا في عدد حالات الانتحار بعد مصر والسودان (17). هذا بالأرقام المطلقة، ولكن إذا أخذنا نسبة المنتحرين إلى عدد السكان ستحتل اليمن المركز الأول عربيًا. من الملحوظ كذلك أن كثيرًا من حالات الانتحار تحدث في مدينتي صنعاء (18)، وإب (19)، وهما مدينتان لا تشهدان عمليات عسكرية، وفيهما سلطة واحدة مستقرة تحتكر السلاح وإدارة البيروقراطية والجهاز الأمني. ما يعانيه المجتمع اليمني يتلخّص في عمليات الإذلال المنفلتة للمواطنين (سهولة القتل ومجّانيته، الضرب والإهانة والطرد والخطف والتعذيب والإخفاء القسري) وتحويل قطاعات واسعة منهم إلى طبقات كادحة عبر تدهور العملة أمام الدولار وقطع مرتبات الموظفين وإتاوات المليشيات على البضائع والتجار التي يتحملها المواطنون بعد ذلك على شكل ارتفاع فادح في أسعار السلع. هذا هو معنى “الحرب” في السياق اليمني الحالي وليس فقط العمليات العسكرية.
“إيقاف” الحرب بما هي اقتتال بالسلاح يتلخص بداهةً في وقف إطلاق النار، ولكن “إنهاء” الحرب بما هي شرط نفسي واجتماعي -اقتصادي لن يحدث إلا بإصلاح سياسي يمنع الإذلال والإهانة وبرنامج كبير لإعادة الإعمار. بدون ذلك يمكن لإطلاق النار أن يتوقف، ولكن “الحرب” ستبقى في المجتمع بدون أن يؤثر فيه كثيرًا “وقفها”. وعليه، إعادة الإعمار وكيفية تمويله، وإنعاش الاقتصاد، أمران حيويّان في مسألة “بناء السلام”، وهنا يجب أخذ الإقليم في عين الاعتبار لأن دوره محوري في كلا الأمرين؛ فأكثر من نصف الصادرات اليمنية يتجه إلى مصر وعُمان والإمارات والسعودية (20)، كما أن تحويلات المغتربين التي بلغت رسميًا 3.711 مليار دولار في 2019 (21) ويقدر حجمها الفعلي بحوالي 8 مليار دولار سنويًا (22)، يأتي من المملكة السعودية وحدها 61% منها (23)، حيث يعمل فيها مئات آلاف اليمنيين، و29% من دول الخليج الأخرى. كما أن السعودية والكويت من أهم مقدمي المساعدات المالية لليمن، ولا يمكن لمشاريع إعادة الإعمار أن تتقدم سريعًا بدون مشاركتهما سواءً عبر المساعدات والمنح أو عبر استثمارات قطاعهما الخاص. هذا هو السياق الإقليمي للاقتصاد اليمني ومشاريع إعادة إعماره، ورفض أي طرف لهذا السياق لن يغير من حقيقته، ولكن يجب على أي تصور للسلام أن يفرق بين حقائق الواقع والموقف السياسي منها، وإذا فضّل رفضها عليه مباشرة تقديم اقتراحات بديلة في تصوره للسلام تعوّض عامل الإقليم الحاسم في هذا الموضوع الأساسي لكي يكون قابلًا للنقاش والتطبيق.
الخاتمة: من الصخب إلى النقاش
المساهمة في تكوين إطار يجعل التفكير العملي بالسلام داخله ممكنًا وقابلًا للنقاش، هو باعتقادي الخطوة الأولى في مشوار طويل لإنتاج تصورات واقعية لإنهاء الحرب، وهو أحد واجبات المثقفين والمهتمين بالشأن العام؛ فإذا كانوا غير قادرين على وقف مآسي الحروب وتغيير توازناتها، يجب عليهم على الأقل ممارسة تفكير نقدي يجعل فهم هذه المآسي ممكنًا، ويفتح أفق تجوزها وتكوين الحلول مشيرًا إلى دور الهيئة الاجتماعية ومسؤوليتها وحدودها الواقعية كذلك. في اليمن لا يدور نقاش عمومي عن السلام، بل ضجة كبيرة، وأحيانًا مفتعلة، حوله؛ لأن أغلب ما يطرح ليس مشاريع محددة لإنهاء الحرب بل أمنيات ومواعظ بخصوصها، وبعضها الآخر، خاصة ذلك القادم من الهيئات الدولية ومكتب المبعوث الأممي، لا ينطلق من السياق التاريخي اليمني للحرب ولا يضع مرجعيات واضحة لمقترحاته، وقد حققت تلك الهيئات نجاحًا في ملء فراغ المجال العام بتصوراتها واحتكارها صفة “الاقتراحات الواقعية” لبناء السلام عبر وسائل وسياسات معيّنة قد نناقشها في مناسبة أخرى. في هذا الوضع نشأ ما يمكن تسميته “أزمة أصوات السلام”، حيث تعجز الجهات والشخصيات اليمنية التي تتصدر الحديث حول الموضوع في كل مناسبة وفعالية بشكل أشبه بالاحتكار والاستحواذ اللذين يميزان المهن والصناعات لا العمل العام_على مقاربة الموضوع بشكل واضح وحاسم، ولا تمد خطوط مواقفها وأفكارها حول الحرب والسلام على استقامتها بحيث ينتج عنها مشروع له ملامح يمكن قبوله أو نقده أو حتى رفضه ومهاجمته بوضوح، مع استمرارها في وظيفة إعادة تدوير المقترحات الدوليّة وأهواءها، واستمرائها هذه الوظيفة.
المخرج من هذه الأزمة يحتاج الكثير من العمل، ولكنه يبدأ بانخراط أكبر قدر ممكن من التشكيلات والهيئات الاجتماعيّة والنخب والأحزاب في نقاش موضوع السلام بوضوح ومباشرة تستحضر الداخل ومصالحه وتوازناته وآماله في المقام الأول، حتى يطابق نقاشُ الموضوع حقيقتَه، وهي أن السلام، تمامًا كما الحرب، شأن اليمنيين أولًا.
المصدر / مجلة المدنية