- جدَل المدَنيِّة والعَلمانيِّة في اليمن (1)

الأربعاء, 13-يناير-2021 - 19:46:07
الإعلام التقدمي - مجلة المدنية - عبدالله القيسي -


مع بداية ثورات الربيع العربي بدأ الحديث عن “الدولة المدنية” كأحد الشعارات التي يطالب بها الثوار، ولم تكن اليمن -كواحدة من بلدان الربيع العربي- بعيدة عن ذلك الشعار بل ربما من أكثرها ترديداً له، وقد كانت ساحة اعتصام الثوار مليئة بالندوات والنقاشات والحوارات حول هذا الشعار “الدولة المدنية”، ومع القبول العام له من غالبية الثوار إلا أن مضامينه لم تكن واضحة تماماً عندهم، لكن أهم ما أكسبه قيمة هو تبنيه من قبل قطبي الصراع الفكري القديم حول مفهوم الدولة، وهما التيار الإسلامي والتيار العلماني، ولربما وجد الفريقان في التسمية الجديدة لافتة تجمعهم في الثورة ضد خصم يريدون إسقاطه، متجنبين مسمياتهم وشعاراتهم القديمة التي ربما لا زالت حمولاتها السلبية في ذهن كل فريق منهما لم تتزحزح، حمولات تختلط فيها الحقيقة بالزيف مما أدى لرفض كل فريق شعار الآخر ومضمونه، وهنا جاءت “المدنية” كواحدة من محاولات التقارب بين التيارين، وخاصة أنهم في لحظة حرجة تقتضي منهم التوحد لإسقاط نظام سابق يرون فيه فساداً واستبداداً وفوق ذلك توريث وامتداد لنفس الحكم السابق.

لقد كان شعار “المدنية” مناسباً للتيارين، أما التيار الإسلامي، وأتحدث هنا عن جناح في حزب الإصلاح بالإمكان اعتباره الجناح التنويري في الحزب، والذي برز خطابه في أثناء الثورة واستطاع أن يطغى صوته على صوت الجناح الذي لازال متمسكاً بمواقفه السابقة في “الدولة الإسلامية”، ذلك الجناح المتنور كان إحدى ثمار الحراك الفكري التجديدي للفكر الإسلامي طوال عقود مضت، وساعده في ذلك تقارب أحزاب اللقاء المشترك في اليمن والذي جمع فيه التيار الإسلامي بمذاهبه المختلفة (الإصلاح، الحق، اتحاد القوى الشعبية) والتيار العلماني بأشكاله المختلفة (الإشتراكي، الناصري، البعث)، ونتيجة هذا اللقاء كانت هناك تعاط متخفف ومتقارب إلى حد ما برز في ذروة الربيع العربي اليمني.

تجاوز الخطاب الأيديولوجي:


كانت السمة البارزة للخطابين طوال عامي 2011و 2012، هو الحديث عن آمال الثوار في الدولة المدنية ومحاولة إقناع أكبر كم من الناس بها، وفي عامي 2013 و2014 ومع الاستقرار الذي جاء بعد تسلم السلطة من النظام السابق بدأ تشكل تيار جديد متفاهم ومتقارب من كل التيارات الموجودة في اليمن، كانت السمة الأبرز فيه أنه يجمع شباباً متخففاً من أحقاد الماضي، ومن الخطاب الإيديولوجي السابق الذي خلق أسواراً بين التيارات ووسع الهوة بينهم، مؤمناً بإمكان تبني خطاب جديد يحقق قيم التعايش والسلام بين أبناء المجتمع، مع احتفاظ كل فريق أو حزب أو تيار بمرجعيته وتصوراته الخاصة، والتي لا تؤثر في الأرضية الصلبة التي تجمعهم، فكنا نشاهد الندوات واللقاءات التي تجمع ضيوفاً متنوعين من تيارات إسلامية ويسارية وقومية بخطاب متزن متطلع لدولة مدنية تحقق الرضى للجميع.

من المدنية إلى العلمانية:
مع نهاية العام 2014 وما حدث من انقلاب أدى إلى استحواذ جماعة دينية-لم تشكل حزباً سياسياً- على السلطة تزعم أن ذلك حقاً إلهياً لها، في انقضاض كامل على كل قيم المدنية. بدأ يتنامى في هذا الجو خطاب علماني يطالب بالدولة العلمانية صراحة كردة فعل على تلك الجماعة، فترك مصطلح المدنية جانباً واعتبر أن الدولة المدنية ليست إلا الدولة العلمانية ذاتها، بينما رأى فريق إسلامي في المقابل أن هناك فروق بين المصطلحين، وأن مصطلح “المدنية” ألصق بمشكلاتنا وسياقنا من مصطلح “العلمانية” الذي نشأ ملتصقاً بالسياق الغربي ومشكلاته وصراعاته، وهناك بدأ النقاش والجدل يتصاعد ويأخذ مسارات مختلفة في التكتل، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي هي الأبرز ، فتكونت مجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي لتجمع بين المتفقين على رؤية ما من الرؤى المطروحة، سواء كانت بتصورات الشباب الإسلامي المنفتح أو بتصورات الشباب العلماني، وظهر عند الفريقين أصوات حادة ترفض الآخر لمجرد انتمائه أو اختياره، ولكنها لم تلق قبولاً واسعاً، وظل تأثيرها محدوداً.

أخذ الجدل يتنامى حول إشكالات تفصيلية في المدنية والعلمانية، فماذا يعني كل مفهوم منهما، وما هي سياقاته التاريخية، وما حقيقة الحمولات السابقة للمفاهيم، وما علاقة العلمانية بالإلحاد، وما هي علاقتها بالديمقراطية، وما هي علاقتها بالعلم، وهل هناك ما يعارض قيم المدنية في الفكر الإسلامي، وهل كانت الدول العربية السابقة علمانية أم لا، وهل يمكن أن تكون العلمانية استبدادية في نفس الوقت، ولماذا خفت الحديث عن الديمقراطية، وكيف يكون الفصل بين الدين والدولة، ولماذا نرى دولاً علمانية تظهر بمظاهر دينية؟ كل هذه الأسئلة وغيرها أخذت نقاشات كثيرة عند الشباب اليمني طوال ست سنوات مضت تفاوتت بين المرونة والصلابة في الطرح، لكنها لم تصل بعد لبلورة ما يمكن أن يكون أرضية صلبة للتعايش بين الفئات المختلفة، والسبب يعود هنا إلى دخول عوامل جديدة شجعت الخطابات الحادة الاقصائية، كان أهم تلك العوامل هو الخطاب الإعلامي للثورة المضادة في الوطن العربي والذي أبرز ودعم خطاباً علمانياً حاداً ضد أي إسلامي حتى لو كان صاحب خطاب معتدل يؤمن بالديمقراطية، وفي المقابل عاد الصوت الإسلامي المتشدد بشقيه الشيعي والسني، فمع عودة مشروع الإمامة على يد الجماعة الشيعية المنقلبة على الحكم، عاد في المقابل الصوت السني المتشدد الذي ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية.



لكن تلك النقاشات استطاعت أن تقرب وجهات نظر كثير من العقلاء الذين يرون أن لا مجال إلا بالتنازل قليلاً للوصول إلى النقطة المشتركة التي يتفق عليها الجميع، وتحفظ وجودهم ووجود دولتهم.

حدود المفاهيم:
وسيحاول الكاتب هنا إجمال ما جرى من جدل حول الأسئلة المذكورة سابقاً، منحازاً إلى ما يراه الأصوب في كل إشكال وجدل، وما يراه أقرب لتضييق الهوة وتخفيف الصراع بين التيارات والفئات المختلفة، مستعيناً في أحكامه بدراسة واسعة لتلك المفاهيم من أدبيات الفكر السياسي الغربي والإسلامي جميعاً.

أول جدل كان حول مصطلح “الدولة المدنية”، ما المقصود بها؟ إذ قال بعضهم إن الدولة المدنية في السياق السياسي هي الدولة العلمانية ذاتها، فهي التي تفصل الدين عن الدولة، وهي المقابل للدولة الدينية الثيوقراطية التي يحكمها رجال الدين، فكلمة مدني جاءت في مقابل كهنوتي ديني، وهذا ما يجادل به الفريق العلماني، وقال آخرون إن الدولة المدنية هي المقابل للدولة العسكرية، فالدولة المدنية هي التي يحكم فيها المدنيون المختارون من الشعب لا قادة الجيش الذي جاءوا بالانقلابات، وهو ما يجادل به فريق من الإسلاميين، وذهب فريق آخر من الإسلاميين إلى أنها هي الدولة الإسلامية ذاتها في صورتها الصحيحة التي كانت في عهد الرسالة ويمثلها ميثاق المدينة الذي استوعب غير المسلمين، وذهب آخرون إلى أن الدولة المدنية هي الدولة الليبرالية التي تركز على حريات وحقوق المواطنين كأفراد، وقال آخرون هي الدولة الوطنية التي يستوي فيها المواطنون أمام القانون.

وحين نعود لدراسة مصطلح “المدنية” في الأدبيات السياسة الغربية وغير الغربية فإننا لا نجد له ارتباطاً –بحسب بعض الباحثين- بمفهوم الدولة إلا في حالات محدود وبمعان مختلفة عن بعضها بعضاً، فمثلاً، تحاكم الرومان إلى “قانون مدني” لمواطني روما في مقابل قانون غير المواطنين الذي سمي “قانون الشعب”، وذكر هوبز الفيلسوف الإنجليزي في ما كتبه عن مصطلح “السلطة المدنية” و”السيادة المدنية” وقصد بها السلطة خارج سلطة الكنيسة المسيحية، وذكر جان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي “الحالة المدنية” في “العقد الاجتماعي” على أنها مرحلة يتَّبع فيها الإنسان مفهوم العدالة بشكل أكثر تطوراً من “الحالة الطبيعية” التي يتَّبع فيها الإنسان غرائزه، وذكر هيغل الفيلسوف الألماني “الخدمة المدنية” التي يدير أصحابها الشأن العام من خلال الجزء البيروقراطي من الدولة منفصلين عما سماه “المجتمع المدني”(1).

ثم جاء جون رولز الفيلسوف الأمريكي وطور مفهوم “الحالة المدنية” عند روسو وطرح نظريته الجديدة في العدالة الاجتماعية، والتي بناها على طريقة العقد الاجتماعي بادئاً من حالة فرضية يكون الناس فيها على ما سماه “الحالة الطبيعية”، وهي حالة ليس لدى الأفراد فيها مجتمع، ويحجبهم ما سماه “ستار الجهل” عن معرفة ذواتهم وتح
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 19-إبريل-2024 الساعة: 09:54 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.alealamy.net/news-81553.htm