الاعلام التقدمي-عباس علي العلي -
لقد كان تصنيم النظرية الماركسية في اطار قانوني فكري محدد لا يقبل التطور و الخروج من الفهم الذاتي الى الفهم الموضوعي للفكر عموما جعلها تدور في محور مركزي يعرقل حركة التطور و يحولها الي مجرد ارث سلفي غير ممكن لو ان يتجاوز الواقع او حتى افتراض هذا التجاوز , ان ادراك ماركس لحتمية التطور و اقراره بحركية الصراع كان يجب ان يكون دافعا لكل الماركسيين لبعده للخروج من هذه البوتقة و الانتقال الى الملحقة اللاحقة او ما يسمى مرحلة ما بعد الماركسية .
من العلم وشروطه أن لا ننظر لكل حركة في الوجود على أنها حدث منفصل من مستوجبات اللحظة ونتاجها , لكل حادث جذور منها من تنبت بجذور عميقة تمتد لمسافات بعيدة في أرض الواقع ومنها من له جذر يمثل شعرة أرتباط بالواقع , لا يمكنني أن أقر بعبثية هذا الكون المنتظم وأقطع بما يخالف الدليل والتجربة الحسية لأدعي العلم والعلمية.
ان قولنا ان الفكر الماركسي الان مجرد تراث انساني فقط بشكليته الحالية غير قادر و لا ممكن له ان يستجيب لمفاعيل النظام السياسي و الفلسفي و الاقتصادي في عالمنا المعاصر لسبب بسيط ان شكلية الصراع الذي بنى ماركس عليه الاسس النظرية لم يعد كافيا لتبرير و تفسير الصراعات البينية داخل المجتمعات الاقتصادية الحالية التي تتغير فيها المفاهيم و المعاني و الحدود و الاشخاص و الاحداث و الافكار حيث يشهد عالمنا اليوم صراع الانسان كل الانسان مع التكنولوجيا المتدخلة و الداخلة في اصغر التفاصيل الحياتية و خشيته من ان تحل مفاعيل التكنلوجيا شيئا فشيئا مع قوة العمل البشرية بشقيها المبدع و المنفذ .
من الصراعات المهمة التي تعصف بالمجتمعات الحضارية اليوم تجاوزت مشكلة الاقتصادي و تنوعت الى مشكلة الهوية و اشكالية حقوق الانسان و الحرية ومفاهيم اخرى تتمحور حول العامل الاجتماعي الذي يعطي للمجتمعات نسقيات و اطر خاضعة للتبدل و التجديد خاصة بعد ان شهد الصراع الطبقي ما يشبه الحلول التوافقية و بلغت العلاقة بين قوة الانتاج و محركات الانتاج تفاهمات حددت الحقوق و الواجبات بين الطرفين و هذا يفقد ايضا ميزة اساسية تصبغ النظرية الماركسية .
ان الخروج من عباءة الفكر و الفلسفة السائدة في القرنين التاسع عشر و العشرون يعد اليوم اساسا مهما في تحرير الانسان من قيود الفكر النظري و الفلسفات احادية النظرة و التي يراد لها ان تقتحم جبرا بتفسيراتها المحدودة و القاصرة الاشكالية الكونية , فلا الرأسمالية قادرة اليوم ان تكون الحل المثالي و لا الماركسية و وجهها الاشتراكي يمكنها ان تعالج ازمة الانسان , ما يعالج ازمة الانسان اليوم هي النظرية الكونية الشاملة التي تدرس اساسيات و مقدمات و معطيات الواقع بتجرد و كأنها خاضعة للتحليلات المختبرية لا صغر التفصيلات و من ثم اعادة تركيب المعادلات دون ان نترك جزئية او فرعية دون ربطها بمنظومة الحل .
يكفي الانسان من تجاربه ان يفهم ان حركة التاريخ محكومة دوما بموجب انظمة منها ما هو معروف و محسوس ومنها ما خفي بالعلة او الشكل او الاسباب لكنه يعلم ان الكثير من التفسيرات الناقصة و المشاكل المؤجلة سببها يعود دوما من القفز على النتائج و محاولة قطف فكرة قد تبدو كلية او تبنيها على انها الكل و اهمال الكثير من الملاحظات و القيم و الافكار الفرعية التي تشكل بمجموعها صورة الواقع و صورة الحل وبربطهما معا يمكننا ان نستنتج ونستشرق ان الرؤية الكونية او نقترب كثيرا منها و هذا يتطلب شجاعة فكرية اكثر من الاحتفاء و الاحتفال و الظن بأننا وصلنا نهاية التاريخ .
حتى في الجدلية و مقولة الحتمية فيه هناك تفرعات نتائجية لم ينظر لها الفكر الماركسي عموما و لم يناقشها على انها فرضية قابلة للتعدد في التصور و الافتراض , لقد حشر ماركس و الماركسية الرؤية في انتصار الطبقة العاملة من خلال تطبيق الاشتراكية العلمية و اعلان نهاية الصراع الطبقي في المجتمع دون ان يفترض ان هذا التصور هو واحد سلسلة من الافتراضات العقلية المقبولة و المعقولة وقد نشهد هزيمة لهذا الخيار و انتصار الخيار الاخر و ايضا قد نشهد تصالح او ائتلاف التناقضات و ولادة خيار اخر او افتراض وجود حل اخر , هذا التفصيل واحد من الانتقادات التاريخية لمفهوم الحتمية الماركسي .
ان العودة الى الباب الذي فتحه الفكر أي فكر ضرورة حتمية واصولية عقلية لا بد منها لإعادة تأشير الخلل و بيان القصورية في فهم لماذا لم نتقدم او نخرج من اطار الفكرة الاساسية والتي بموجبها شهدنا ولادة النظرية الفكرية , على الماركسيون الجدد مسؤولية تجديد وتنشيط فكر ماركس ليس من خلال تبني المقولات التاريخية السلفية ولكن من خلال متابعة مؤشرات وخطوط السير العقلية التي تبناها مؤسس الفكر الماركسي ومحاولة الخروج اكثر بجرأة وحرية و روح نقدية تساير الزمن وتستجيب لكل التبدلات و التحولات في الواقع وفي الفكر دون ان تنسى ان عامل الزمن هو عامل كاشف و مقيم ومعياري لبيان صلاحية الفكرة او عدميتها .
على الماركسيين الجدد اليوم ان يقبلوا ان النتيجة التي آل اليها الفكر الماركسي هي نتيجة سلبية لم يتصورها احد قبل فترة من الزمن لان قولبة الفكر و التمسك بالمقولات الثابتة وعدم القدرة و الشجاعة على ممارسة النقد الايجابي و البحث في افتراضات عالم اخر خارج المحدد المرتبط به هي من اسباب و علل هذا التخلف , لا احد يؤمن اليوم حقيقة و لا يقبل ان تطبق الماركسية بالصيغ التي جربت بها في مجتمع محكوم بالعولمة و ما بعد العولمة خاصة ان هذا الامتداد المجتمعي الى الخارج و الى الداخل و الغير قابل على الضبط و الربط المركزي سيجعل من تطبيق التجربة الماركسية مجددا عبارة عن فصل كوميدي من مسرحية هزيلة