تعودنا على الاعتقاد بأن الإرهابي (مهما كانت مرجعيته السحرية دنيوية أو دينية) بطل، وذلك حتى بالنسبة للذين يدينونه ويدينون عمله. هناك خلفية فكرية وثقافية راسخة تجعلنا ننظر للإرهابي على أنه بطل مغوار حتى عندما لا نكون موافقين على فعله.

وعندما نستسلم بدون وعي واضح منا للتصور الإيجابي والبطولي للإرهابي فنحن نطمس معنى آخر هو المعنى السلبي واللابطولي لهذا الكائن. هذا التصور الإيجابي يتسلل إلى أذهاننا عبر قنوات وشعيرات الثقافة وهو تصور يدعمه الإدراك. فحركية الإرهابي وخفّته التي تشبه حركات نينجا (وهو التشبيه الذي كرسه الباحث الفرنسي رافاييل ليوجييه) أوسيايدرمان أو ما ماثلهم في متخيل الخيال العلمي. هي حركية توحي بالاقتناع والإرادوية والتصميم والفاعلية، وهي بالتأكيد تصورات تلقى الل على الجانب الآخر المظلم من “القمر” وهو أن الشخص هو أشبه ما يكون بأبطال أفلام الكراكيز ومسرح الدمى، حيث لا يتحرك الأشخاص إلا من خلال اليد الخفية الممسكة بالخيوط.

فالإرهابي الذي يوحي بالفعالية هو شخص مسخّر وموجّه من بعيد وهو ما يحيلنا على الجانب السلبي في شخصيته وعمله: فهو ضحية بقدر ما هو بطل، وهو أضحية بقدر ما هو المضحي.

وإذا عدنا إلى التمييز بين الأبنية الثقافية الدنيوية والأبنية الثقافية الأخروية، إذا ما كان هناك بينهما فارق، وبالتالي بين الإيديولوجيات الدهرية والإيديولوجيات الأخروية، فإن بإمكاننا المجازفة بالقول أن البطل الإيديولوجي هو أيضا ضحية إيديولوجيته، بل هو الضحية الشَّرطي لإيديولوجيته، أي الضحية الأول والقبلي لإيديولوجيته.

تقوم الإيديولوجيات الدهرية والاسكاتولوجية بإعادة تكوين وإعادة صناعة وفرمطة Formatage نفسية وذهنية ومتخيل بطلها الضحية، عبر عملية قلب رفيعة ودقيقة. ومثلما ضاع آلاف بل ملايين من الناس أي ضيعوا حياتهم من أجل أفكار ومشاعر افتدوها (وافتدتهم) كالأفكار الفوضوية والاشتراكية الوطنية والعرقية فإن ملايين بل ملايير أخرى من البشر قد كانوا ضحايا الإيديولوجيات المبنية على المقدس (الحروب الدينية، الإمامية، الوهابية، الإخوانية…) فالأوهام الأخروية لا تقل هنا أهمية أو قدرة عن الأوهام الدنيوية غير أن الخسارة تتفاوت بين الطرفين باعتبار أن الناس جميعا هم ضيوف الحياة. فالجهادي يخسر الدنيا والآخرة لأنه لن يجد الأحلام الوردية التي ضحى من أجلها وسيجد نفسه أمام عقاب أخروي على ما اقترفه في حق الناس بحرمانهم من حقهم الأساسي: حق الحياة.

أما المناضل الطبقي أو الوطني أو العرقي فلن يخسر إلا حياة واحدة هي الحياة التي تعلق بها وناضل من أجلها وسلط بها الضوء على حياته وحلم بالجنة على الأرض.

هاتان الإيديولوجيتان، على الرغم من تباينهما المرجعي ومن خلفيتهما الفكريتين المتباينتين تشتركان في بنيتهما العقدية (دوغما+وسائل+أوهام) لكن كلا منهما تنتمي إلى فترة معينة (Époque) من التاريخ. أولاهما تنتمي إلى فترة سادتها مقولات التحرر والتحديث والعقلانية والأمل وهي الفترة التي سادت ما كان يسمى العالم الثالث بين ثورة وسقطة أي بين 1997 الثورة الروسية وسقوط المعسكر السوفياتي 1989 والتي تلتها فترة عودة الآمال الميتافيزيقية كما جسدها الانتشار الكبير للإيديولوجيا الدينية الإسلامية. الأولى أنتجت لنا مجاهدين دنيويين والثانية أنتجت لنا مناضلين أخرويين، لكن كليهما تركتا (وتتركان) وراءهما ضحايا وأشلاء وأطلالا وخرابا، وكلاهما قبض ثمن عمله أولهما مؤجل وثانيهما معجّل، لكن كليهما استثمر كحطب للإيديولوجيا بنكهتيها الدنيوية والأخروية.

عن منبر الحرية

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.