لا يوجد أمة تتصف بالتجانس التام أي أن أفرادها ينتمون لنفس العرق ونفس الثقافة ونفس الدين ونفس الجنس ونفس الطبقة الاجتماعية ونفس الأفكار السياسية، فكل أمة تتصف بتنوع مكونتها العرقية والثقافية والعقائدية والطبقية والسياسية، ولذلك لابد من وجود طريقة لإدارة هذا التنوع لتعيش كل هذه المكونات في سلام ويصبح هذا التعدد مصدر ثراء وليس مصدر تصادم وتناحر واقتتال داخلي.

تأسيس التعددية

تخبرنا التجارب الإنسانية أن هناك وسيلتين لتحقيق الاستقرار داخل المجتمع، الأولي هي الاندماج الانصهاري، أى أن ينصهر المجتمع بأكمله في هوية أحادية واحدة، تكون إما هوية أغلبية السكان أو أيديولوجية الحزب الحاكم أو شخصية الزعيم القائد، لهذا فهى وسيلة ترتبط بالنظم المستبدة، وقد أثبت التاريخ فشلها حيث انها الأمر بهذه المجتمعات إلى الانقسام بطريقة سلمية في أحسن الأحوال أو طريقة دموية نتيجة حرب أهلية، كما نرى الأن في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، ومن قبلهم الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا.

أما الوسيلة الثانية فهى الرغبة في العيش المشترك، وهى الوسيلة القائمة على الاعتراف بالتعددية ورفض الأحادية، وما يتبعها من قيم قبول الآخر والحوار والنسبية. ويمكن تحقيق هذه الرغبة عن طريق بث القيم التي تدعم هذه التعددية في المجتمع والتأكيد على المصالح المشترك بين مكونات المجتمع وما يجعل من العيش المشترك نمط حياة ثقافي واقتصادي وسياسي.

فيجب ترسيخ ثقافة قبول الآخر والتأكيد أن الآخر هو المختلف الذي ربما لا نوافق على أفكاره أو سلوكياته ولكنه مواطن، له مثلنا نفس الحق في حرية الرأى والتعبير والاعتقاد والعيش وفق نمط الحياة الذي يختاره لنفسه. كما يجب ترسيخ قيم الحوار بين المختلفين سياسيا وعقائديا وأن الحوار والتوافق هو السبيل الأمثل لحل النزاعات والاختلافات على قاعدة رابح-رابح دون إقصاء أو تهميش. ولعل أخطر ما يهدد التعددية في مجتمعاتنا هو قاعدة “الحق واحد لا يتعدد” فهى القاعدة التى تؤسس للأحادية ورفض الاعتراف بالآخر، ما يقتضي تأسيس ثقافة أخرى تقوم على نسبية الحقائق وأن ما أراه أنا حق أو صحيح قد يرى غيري عكس ذلك، ولا أحد يستطيع امتلاك الحقيقة المطلقة. ومع نشر ثقافة التعددية في المجتمع، لابد من قوانين تعاقب على بث الكراهية والتحريض وتعاقب على التمييز لأى أسباب.

الهوية المشتركة

وإذا كان الانصهار مرفوض والتعايش المشترك هو ما اثبت نجاحه في الحفاظ على وحدة الدول وتحقيق السلام الاجتماعي، فإن هذا يقتضي خلق هوية مشتركة تكون مظلة لكل الهويات المختلفة الموجودة داخل المجتمع الواحد. هوية تستطيع استيعاب كل هذه الهويات في داخلها دون ان تطغى إحداهما على الأخر، هوية تتشكل من كل هذه الهويات، تكون مثل علم الدولة الذي يتكون من عدة ألوان إذا تم إزالة أحدها لن يعود العلم ممثل لهذه الدولة. وهى ما يمكن تسميته الهوية المفتوحة مقابل الهوية المغلقة التى قد تكون اثنية أو دينية أو جنسية أو أيديولوجية، قد يستحيل الانضمام لها مثل الهوية العرقية أو أن الانضمام لها يقتضي تخلي الإنسان عن أى هوية أخرى.

أما الهوية المفتوحة فهى هوية تسمح للجميع بأن يكون جزء منها دون التخلي عن هواياته الأخرى. وهذا يأخذنا إلى القومية المدنية Civic Nationalism حيث لا ترتبط القومية بأى مفهوم عرقي أو ديني ولكن ترتبط بالقانون، أى أن الانتماء لدولة أو أمة ما هو مركز قانوني، أى أن يحمل الإنسان جنسية هذه الدولة أو تلك فيصبح بذلك مواطن له كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات دون أن يقتضي ذلك التخلى عن هويته الدينية أو العرقية أو الثقافية أو الجنسية، وكلما كان القانون مرن في منح الجنسية كلما كانت هذه الهوية القومية المدنية أكثر انفتاحا. وهو ما نراه في دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا وغيرها من الدول الديمقراطية.

وبذلك يصبح متاح لكل المواطنين التعبير عن ثقافتهم ومعتقداتهم وأفكارهم والعيش وفق نمط الحياة الذي يناسبهم دون أى تهديد أو تهميش أو تمييز ضدهم.

كذلك تمثل الهوية الانسانية التى يكتسبها الإنسان بمجرد الميلاد، فتجعل كل بنى الانسان شركاء في هذا الكوكب، تطور هام فى ترسيخ مفهوم التعددية القائم على التعايش وقبول الأخر والسلام ونبذ الحروب، لتجعل من التعددية الانسانية مصدر ثراء ورخاء لكل سكان الأرض.

وبهذا تتأسس التعددية على الثقافة والقانون والهوية المشتركة.

إدارة التعددية

إذا كانت الهوية المشتركة التى تتشكل من الهويات المكونة للمجتمع الواحد هى الطريق لتحقيق العيش المشترك لمكونات المجتمع المختلفة، فإن الديمقراطية هى الوسيلة لإدارة هذه التعددية، والديمقراطية كما يعرفها آلان تورين Alain Touraine في كتابة ما الديمقراطية؟ هي “أداة لإدارة الاختلاف”

فالديمقراطية وما تحمله من قيم تدعم السلام الاجتماعي وتحقق الاستقرار، عن طريق الحوار بين المختلفين والتوصل إلى توافقات وموائمات بين مكونات الأمة الواحدة تجعل الجميع يخرج وقد فاز بشيء، فعندما تشعر شريحة ما بأنها قد خرجت مهزومة أو خالية الوفاض وأن شريحة ما في المجتمع قد حصلت على كل الأرباح فلابد أن يتولد لديها شعور بالظلم ورفض للتعايش مع الأخر، وبالتالي تصبح الأرض ممهدة للعنف المجتمعي الذي قد يصل إلى حد الحرب الأهلية.

والديمقراطية وما تقوم عليه من إجراءات لاختيار من يتولى السلطة وتقييده باحترام الحريات العامة والشخصية للمواطنين وإلزامه بممارسة السلطة من خلال مؤسسات مستقرة وفاعلة، وإعمال مبدأ فصل السلطات ما يجعل كل سلطة رقيبة على الأخرى ومقيدة لها، فلا يوقف السلطة إلا السلطة، وسيادة القانون على الجميع. كل هذا يجعل السلطة دائما خادمة للمجتمع بكل أطيافة، وليس العكس.

كما أن المواطنة باعتبارها عماد الديمقراطية تنفي الشعور بالظلم لدى المواطنين. فكل إنسان يحمل جنسية الدولة هو مواطن، لا يميزه عن أي مواطن أخر سوى الكفاءة والقدرات العلمية والعملية، وما يقدمه من إسهامات لخدمة المجتمع. فلا يوضع على تقدمه أو صعوده في السلم الاجتماعي أي قيود بسبب عقيدته أو عرقه أو لونه أو جنسه أو طبقته الاجتماعية أو انتمائه السياسي، فقط كفاءته ومهاراته هي ما تجعله يتقدم أو يتأخر.

فالدولة الديمقراطية هي دولة مواطنة تقوم على الحقوق والواجبات دون تمييز على أى أساس، كما أنها تحمي المواطنين من أى بطش قد يتعرضوا له من قبل السلطة أو مواطنين أخرين يحملون أفكار قومية أو دينية متطرفة ترفض الأخر وتسعى لتهميشه واقصاءه.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.