تقوم العلمانية على نسبية الحقيقة فهي ضد المطلقات وضد اى ادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، سواء كانت هذه الحقيقة دينية أو أيديولوجية أو سياسية. فالعلمانية لا تعرف الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد، فكل شيء نسبي ومتغير. وهذه النسبية هي العدو الأول لأي مستبد. فالاستبداد يقوم على الحقيقة الواحدة المطلقة التي يمتلكها الزعيم الأوحد أو الحزب الواحد.

فتعريف الطاغية للوطنية هو التعريف الوحيد الصحيح، ورؤية الزعيم للأمن القومي هي الرؤية الوحيدة الصحيحة، وسياسات المستبد الاقتصادية لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، ومواقف الديكتاتور الدولية هي المواقف السليمة المعبرة عن الرؤية العميقة، لينتهي الأمر بتماهي الزعيم في الوطن والتي تعبر عنها المقولة الشهيرة للملك الفرنسي لويس الرابع عشر “أنا الدولة ” L’Etat, c’est moi. وبهذا تصبح معارضة الزعيم خيانة للوطن، تستحق العقوبة بالسجن أو الشنق وحملات إعلامية لكشف المعارض الخائن العميل الأجندة.

ولأن العلمانية كنمط تفكير يناهض الدوجما ويسعى للقضاء عليها سواء كانت دوجما دينية أو وطنية، يعارض الطغاة العلمانية كمنهج تفكير يقوم على النسبية. فالعلمانية تجعل من رؤية الزعيم وقراراته وسياساته مجرد وجهات نظر قد تكون صحيحة أو خاطئه. وبذلك لا تعني معارضة الزعيم الخيانة ولا العمالة ولا تستحق العقوبة، وكما أن الحاكم ليس ظل الله على الأرض أو الناطق باسمه، لا يوجد ظل للوطن على الأرض أو الناطق باسمه. فلا يستطيع الحاكم احتكار الوطن والوطنية لصالحه.

كما أن العلمانية هي أساس المواطنة التي تجعل كل أبناء الأمة متساويين في الحقوق والواجبات، والاستبداد يرفض المواطنة ويعمل على هدمها. فالدولة المستبدة هي دولة امتيازات وليست دولة حقوق وواجبات وسيادة القانون. فمن اقترب من السلطة وعمل في خدمتها وتوطيد أركانها، حصل على كل ما يرغب فيه من امتيازات هو وأسرته وأصبحوا فوق القانون. فالاستبداد وإن كان في بعض الحالات لا يميز بين المواطنين على أساس العقيدة إلا أنه يميز بين المواطنين على أساس الولاء للزعيم المستبد، فأصحاب الولاء هم مواطنين من الدرجة الأولى والمعارضين مصيرهم الموت ومصير عائلاتهم الجوع، وباقي الأمة هم مجرد خدم لدى الطبقة الحاكمة وأصحاب الامتيازات.

كذلك تمثل العلمانية تهديد قوي لرجال الدين الحليف الأول لكل طاغية يريد أن يتحكم في عقول الجماهير ويكرس في منهج تفكيرها أن الحق واحد لا يتعدد وأن للحقيقة وجه واحد وليس أوجه كثيرة، وأن هذه الحقيقة توجد فقط لدى الزعيم الوطني المخلص الذي أرسله الله لإنقاذ الوطن وهزيمة الأعداء. ولهذا لابد من ضرب العلمانية حتى يستطيع رجال الدين القيام بدورهم في السيطرة على عقول الجماهير لتنقاد خلف الزعيم دون وعى أو تفكير، ولتكون معادية ورافضة لكل من يعارض الزعيم باعتباره من أعداء الحق الذي يمثله الحاكم.

لهذا يعادي الطغاة العلمانية، فالاستبداد يقوم على الدوجما والعلمانية ضد الدوجما.

حول الموقع

مركز الإعلام التقدمي مؤسسةٌ إعلاميَّةٌ تابعة لـ(ملتقى الرقي والتقدم) تُعنى بخلق ثقافة وطنية مدنية علمانية.