الإعلام التقدمي -
يظل تعاطي الإسلاميين مع فرج فودة منطلقا من موقف الثأر. فهم مستعدون للتسامح مع الكثير من خصومهم، من علي عبد الرازق إلى طه حسين، لكن فرج فودة يبقى ذلك الاستثناء الذي لا يمكن أن يتسامحوا معه، رغم مرور 28 عاما على اغتياله، بمباركة من قياداتهم الروحية.
جزء كبير من هذا الموقف الثأري من فرج فودة يعود الى سببين رئيسيين:
الأول: أن فرج فودة تجاوز الخطاب النخبوي الذي حكم مساهمات المفكرين العلمانيين، وقدم خطابا شعبيا قادرا على الوصول الى الجماهير.
بل إنه جرب كل سبل الوصول إلى الإنسان العادي والتحاور معه، ابتداء من المقالات المبسطة إلى الندوات والمناظرات واللقاءات العامة.
السبب الثاني: أن فودة لم يناقش الأفكار فقط، بل ناقش التجربة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية، وكشف تناقضاتها، ابتداء من شركات توظيف الأموال، إلى تجارب تطبيق الشريعة الفاشلة في السودان والسعودية وإيران وباكستان.
ضمن هذا الموقف التاريخي، جاء فيلم “اغتيال فرج فودة”، الذي بث على قناة الجزيرة الوثائقية بتاريخ 15 يونيو 2020، بمناسبة الذكرى الثامنة والعشرين لاغتياله.
ورغم أن إعلان الفيلم حاول الظهور بمظهر الموضوعي، إلا أن التفحص النقدي للفيلم، وطريقة بنائه واختيار ضيوفه ومقاطعه الصوتية، يكشف بوضوح تحيز الفيلم وتورطه في دعم وجهة نظر “الجهاديين” الذي اغتالوا فودة ومن خلفهم من الإسلاميين “المعتدلين”.
الذين اطلعوا، ولو قليلا، على أساليب تحليل المضمون الإعلامي، يعرفون أن هناك أساليب متعددة للتحيز والتعصب لوجهة نظر معينة، يمكن استخدامها بذكاء، بطريقة قد لا ينتبه لها المشاهدون.
وبدلا من الطريقة القديمة المستهلكة عن طريق تقديم وجهة نظر واحدة فقط، هناك أساليب تحيز أكثر مراوغة، يتم فيها ظاهريا تقديم وجهات النظر المتعارضة، لكن مع توجيه المادة الإعلامية نحو وجهة نظر سياسية معينة.
من أساليب التحيز المراوغ: عدد الضيوف، وطريقة اختيار الضيوف، والتحيز في الوقت المتاح لكل ضيف، والتحيز في اختيار المقاطع الصوتية الضعيفة، وطريقة بناء القصة الإعلامية، بحيث تصب في خدمة اتجاه معين.
وقد استخدم الفيلم كل هذه الأساليب بذكاء.
من ناحية الضيوف، كانت هناك زيادة عددية في الضيوف الممثلين لوجهة النظر المعادية لفرج فودة، بحيث تم اختيار 6 ضيوف معادين، مقابل 4 فقط لوجهة النظر المدافعة.
لكن هذا ليس بيت القصيد، فأغلب الضيوف الذين اختيروا لطرح وجهة النظر الجهادية كانوا متحدثين بارعين أسسوا لوجهة نظرهم باقتدار.
في المقابل، كانت الشخصيات المؤيدة لفودة، شخصيات ضعيفة باستثناء محمد نعيم.
لم تتوقف أساليب التحيز المراوغة هنا، بل كان هناك أسلوب ثالث عن طريق اختيار المقاطع الصوتية للضيوف.
فقد تم اختيار مقاطع صوتية قوية ومتماسكة للجهاديين، مقابل اختيار مقاطع مشتتة وبلا رابط للضيوف المدافعين عن فودة.
كان ظهور شخصية كبيرة مثل رفعت السعيد في الفيلم، ظهورا قصيرا، وكان هناك تعمد واضح في اختيار مقاطع صوتية له تدين فرج فودة بدلا من الدفاع عنه (مثل التصريح أن فودة طرد حراسه الشخصيين قبل اغتياله بيوم!).
الأسلوب الرابع الذي استخدمه الفيلم لدعم وجهة النظر المؤيدة للاغتيال، هو الزمن.
أتاح الفيلم وقتا أطول لأصحاب وجهات النظر الجهادية.
وحاز الإرهابي أبو العلا على الوقت الأطول بلا منازع، دون أن يكلف صناع الفيلم نفسهم أدنى مجهود للرد على كل الادعاءات والأكاذيب التي رددها.
وهنا نأتي للأسلوب الخامس للصناعة الاعلامية اللاأخلاقية، وهو تقديم الخصم كأنه شاهد محايد!
نعم.. قدم الفيلم إرهابيي الجماعة الإسلامية الذين خططوا ونفذوا الاغتيال باعتبارهم شهودا “محايدين”.
وامتلأ الفيلم بأحاديث خطيرة وفتاوى إرهابية بشعة، تم تقديمها باعتبارها وجهات نظر!
إلى جانب هذه الجوانب الشكلية، تورط صناع الفيلم في أسلوب من أهم أساليب التحيز اللاأخلاقي واللامهني، وهو التحيز عن طريق اختيار جوانب القصة.
رغم أن عنوان الفيلم هو “اغتيال فرج فودة”، إلا أن الفيلم لم يكن كذلك!
كان الفيلم صراعا داخليا بين قصتين رئيسيتين: القصه الأولى، هي قصة اغتيال فرج فودة، والقصه الثانية، هي قصة الجماعة الإسلامية ودورها في هذا الاغتيال.
وليس مستغربا أن الوقت الذي أتاحه الفيلم لسرد قصة الجماعة الإسلامية، كان أطول من الوقت الذي أتاحه لسرد قصة فرج فودة ومعاركه الفكرية.
قدم صناع الفيلم الجماعة الإسلامية، باعتبارها جماعة دعوية مسالمة، تعرضت للظلم من قبل النظام الذي قتل 2000 فرد من أفرادها!
وهي معلومة وردت في الفيلم على لسان ناجح إبراهيم، أحد إرهابيي الجماعة الإسلامية، من دون أيضا، أن يبذل صانع الفيلم أي مجهود في التثبت من هذه المعلومة.
إلى جانب ذلك، قدم الفيلم كل الإثباتات المراوغة، لإقناع الجمهور أن عملية الاغتيال، كانت مجرد سلوك فردي من قبل عدد من “الشباب الغيورين على دينهم”، وأن الجماعة الاسلامية لم يكن لها دور في ذلك.
حتى إن الفيلم، أخفى فتاوى القتل، ومن ضمنها فتوى لعمر عبد الرحمن، أمير الجماعة.
أما بالنسبة لفودة، فقد قدمه الفيلم بصورة المفكر المستفز والمتهور، الذي مشى بنفسه إلى طريق التهلكة.
لكن هناك تفصيلا خطيرا آخر يجب التنبيه له، وهو أن الفيلم لم يركز على المحاور الفكرية الرئيسية التي كرس لها فرج فودة حياته (تطبيق الشريعة والبنوك الإسلامية والدولة الاسلامية والإرهاب). بدلا من ذلك، ركز على جزئية بسيطة جدا، لا تشكل حتى اهتماما فرعيا لفودة، وهي قضية السلام مع إسرائيل.
تقديم فكر فرج فودة من خلال هذه الجزئية ليس بريئا، فقد كان الغرض، تصويره للمشاهد كأحد رموز التطبيع، وقد أكد الفيلم هذه الصورة الملفقة، عبر تصريحات خصومه الجهاديين في الفيلم، الذين ادعوا أنه كان يعتبر إسرائيل “أعظم دولة”، وهذا طبعا غير صحيح، وقد نفى فودة هذه الشائعات في حياته.
بعد أن تم تقديم فودة في صورة تكرهها أغلب الجماهير في العالم العربي، وهي صورة المطبع والمدافع عن إسرائيل، كانت الخطوه التالية، هي تقديم معلومات مغلوطة على لسان خصومه، لكن بطريقة تعطي الانطباع أنها حقائق.
من ضمن هذه الأكاذيب، أن حزب الوفد فصل فودة بسبب عداوته للدين، وأن فودة أقسم أن يقاتل ضد تطبيق أحكام الشريعة حتى آخر قطرة من دمه!
هل هذا كل شيء؟ الأسوأ لم يأت بعد!
هناك أيضا… تحيز باستخدام أسلوب “ضربة النهاية”.
ينقسم الفيلم التسجيلي إلى “مشاهد” حسب الموضوع.
كان هناك مثلا، مشهد عن الصراع بين الجماعة الإسلامية والسلطة، ومشهد آخر عن مرحلة ما بعد اغتيال فرج فودة، ومشهد ثالث حول الندوة الشهيرة… إلى آخره.
الملاحظة الواضحة، أن صناع الفيلم جعلوا التعليق الأخير في أغلب هذه المشاهد، لواحد من الجهاديين، وحاز الإرهابي أبو العلا على قصب السبق في اختتام أغلب مشاهد الفيلم بفكرة من أفكاره.
“ضربة النهاية” في المشهد، كما يعرف المشتغلون بالعمل الإعلامي، هي التصريح الأقوى والفكرة التي يراد تسويقها، أو التأكيد عليها.
لكن أسوأ ما في الفيلم… هو العشرة دقائق الأخيرة التي تصور الأحداث بعد اغتيال فرج فودة مباشرة.!
في تلك الدقائق، تخلى صناع الفيلم عن حذرهم، واختفت تماما كل الأصوات والشخصيات المدافعة عن فرج فودة، وسيطر الجهاديون على التصريحات حتى نهاية الفيلم.
ما عجز الجهاديون عن تحقيقه، كان التعليق voice over يقوم به.
ولا أبالغ لو قلت… إن التعليق في هذا الفيلم هو أسوا تعليق تسجيلي شاهدته في حياتي.
في تلك الدقائق، قدم الإعلاميون/ صناع الفيلم، ضربات النهاية الإرهابية الأربعة.
الضربة الأولى عبر التعليق في أبشع جملة إرهابية سمعتها في حياتي قائلين: “وهكذا كان القتل مريحا لكلا الطرفين… استراح خصوم فرج فودة من لسانه وأفكاره، بينما رحل الرجل عن هموم الدنيا بأسرها”! تقديم عملية اغتيال بمثل هذه الكلمات، التي تصور الضحية بصورة المستفيد من الموت، هي واحدة من أوسخ التناولات الإعلامية التي رأيتها في حياتي.
وعلى نقابة الصحافة في مصر، تقديم مثل هذه النوعيات الخطرة من الإعلاميين للمحاكمة.
ضربة النهاية الثانية جاءت أيضا عبر التعليق الذي قال: “وجاءت أحكام المحكمة لتسدل ستار النهاية على هذه القضية”.
وواضح هنا، أن الفيلم يريد القول إن فودة انتهى كشخص وكمفكر، بمجرد وفاته وقتل المتهمين، وهي نفس النقطة التي يحاول الإسلاميون تقديمها منذ 28 سنة. محاولة الاغتيال المعنوي بعد الاغتيال الجسدي ودفن أفكار فودة للأبد!
ضربة النهاية الإرهابية الثالثة التي قدمها الفيلم، هي تصريح الإرهابي ناجح إبراهيم في نهاية الفيلم، أن “على أئمة الفكر العلماني أن لا يتطرفوا لئلا يؤدي ذلك إلى تطرف مضاد”… وهي ضربة واضحة، معناها لا تفكروا ولا تنتقدوا وإلا كان مصيركم مصير فرج فودة.
أما ضربة النهاية الإرهابية الأهم، فهي ختام الفيلم بتصريح للإرهابي أبو العلا، تقدمه في صورة “الإرهابي النبيل” الذي ضحى بحياته وماله وشبابه من أجل “القضية”.
اقتربت الكاميرا عند هذا التصريح إلى لقطة قريبة close up.
ومن يفهم في لغة الصورة، يعرف أن هذه اللقطة، هي لقطة التعاطف مع الشخص. ظهرت ملامح الإرهابي وصوته يتهدج وملامح التقوى تبرز على وجهه، وموسيقى الفيلم الحماسية تختلط مع تصريحه وهو يقول إنه فعل ما فعل، من أجل مرضاة الله… لتكتمل صورة عمل إعلامي قدم كل ما يمكن، لتبرير الإرهاب وتلميع الإرهابي وتقديمه في صورة إنسان نبيل و”شاب غيور”… فعل ما فعل دفاعا عن عقيدته وربه!
بقيت نقطة أخيرة حول تحيز الفيلم باستخدام أسلوب “التحيز بالإخفاء“.
فإذا كان الفيلم، عبر “التحيز بالإظهار” قد قدم القصة، باعتبارها صراعا بين “مثقف متهور” و”شباب غيور على دينه“، فإن التحيز بالإخفاء قد أخفى شبكة التحريض الواسعة التي سبقت الاغتيال. الشبكة التي ضمت محمد الغزالي ومحمود مزروعة وعبد العزيز غفار والشعراوي ومحمد عمارة والأزهر بصفته الرسمية أو بصفته الحزبية “ندوة علماء الأزهر”، وضمت أيضا صلاح أبو إسماعيل والشيخ جاد الحق… وجمع آخر من الجهاديين والسلفيين.
أُنتج الفيلم عام 2012 وهو ابن تلك اللحظة.
لحظة صعود الإخوان في مصر.. لحظة إطلاق الرئيس مرسي للجهاديين المحكومين في قضايا إرهابية.
وبالتالي… حاول الفيلم تقديم مساهمته في محاولة الاغتيال المعنوي للمثقف الذي لم تهدأ مشاعر الثأر الإسلامية ضده حتى اليوم.
* نقلاً عن موقع "مرايانا"