الإعلام التقدمي-لينا صلاح الدين -
إن المعضلة الرئيسة التي كان نتاجها تأخر الكيانات الشرقية عن مواكبة العالم، تتمثل في ذلك التمسك الدوغماتي بفكرانيات دينية نظرية بحتة، والتي تبعد كل البعد عما هو براجماتيكي، وعن كل ما يعود على تلك الكيانات بنفع ملموس. و دول الشرق لطالما إعتبرت تلكم الفكرانيات خلاصا مما هم عليه، على الرغم من أنها طوال قرون لم تعط أي نتاج عملي سياسيا، مما يخولني إلى إعتبارها لا تتخطى الحد الميتافيزيقي في كونها إيديولوجيات عقيمة لا تقدم ولا تؤخر.
ربما يشتم القارئ مما سبق قوله نفحة مادية بحتة، لكن الواقع يجبرنا على التفريق بين العوالم السياسية والعوالم الأخرى كما اللاهوتية ؛ من حيث أن السياسة لا تقبل بغير المادة التي تتمثل في الناتج العملي الذي تلتمسه الأطراف المدنية. من هذا الطرح يتضح لنا أن الفضيلة في عالم السياسة ليست كالفضيلة في عالم الدين ؛ من حيث أن السياسة لا تكتفي بالنوايا الحسنة كضرورة قصوى. وذلك لأنها موجهة إلى جمهور دائم الإحتياج، لا إلى إله متكامل، جمهور لا تفيده السريرة الحسنة وقد لا يهمه وجودها في الأصل، ما دام أنه يلتمس الناتج الذي يلبي إحتياجاته.
كل ذلك كان بمثابة المحرض الأساسي للدعوة لتفعيل عملية علمنة النظم السياسية الشرقية، خاصة عندما أسلفنا القول بأن العلمنة إنما هي الطريقة (الواقعية) الوحيدة من أجل إخراج تلكم الأمم من ذاك اليم اللاهوتي الوهمي السحيق.
ولكن المعضلة الأكبر هنا تتجسد في ذلك الخلل البنيوي لدى أفراد الشرق في فهم معنى العلمنة، وإنشقاقهم التام عن الجينيالوجية الذي يتمثل في عدم العودة للأسباب التأريخية التي أدت إلى تبلور هذا المصطلح، وما ترتب على ظهوره من نتائج. إنما فقط قاموا بالإكتفاء بالفرضية السائدة عن مفهوم العلمنة والتي تتمثل في كونها ذلك الحاجز الذي يريد بأي طريقة أن يحول بينهم و بين تبعياتهم العقدية. على الرغم من أن العلمانية تبتغي حجب الدين عن السياسة، لا حجب الدين عن الشعب.
إن العلمانية لا تتجاوز كونها تلخيص لمفهوم الحرية الدينية والدعوة إلى المساواة، وأن تبني الدولة لدين بعينه، يضع طوائفا أخرى ضمن الأقليات، مما يدفعنا للقول بأن كل نظام لا يتبنى العلمانية فهو نظام دكتاتوري في الصميم.
إنني عندما تحدثت عن الناتج العملي الذي تمخض عن العلمانية، إنما عنيت بذلك عصر النهضة الذي ما كان لتقوم له قائمة لولا النهضة الفكرية التي كانت العلمانية أحد تبعياتها. وعلى الرغم من أنه يسهل التعمق في التأريخ إبتغاء إلتماس ثورات فكرية كانت تروسها هي العلمانية ، ففي المقابل نجد من الصعب أن نجد في التأريخ مثال لنهضة فكرية حقيقية تمت بفعل الثيوقراطية. وقد يكون لهذا علاقة بعدم ترسخ مفهوم العلمنة في الشرق بعد ؛ بسبب أن الشرق لم يشهد -حتى اللحظة- ثورة فكرية راسخة تمكنه من الإنفلات من هذا الإنكفاء والتقهقر نحو تقدم فكري نهضوي، وإن كان هناك بعض دول الشرق التي تمارس العلمانية، إلا أنها تظل علمانية ذرائعية لم تتأسس على أصل متين.
فلنأتي الآن إلى فحوى هذا المقال، في ما إذا إفترضنا بأن تلكم الأمم مدركة تماما لفحوى العلمنة بشكله الصحيح، ومع ذلك يحدث الرفض، فإن ذلك سيقودنا إلى مشكلة عنصرية أشد خطرا، تتمثل في رفض ال (نحن) لأن يتم مساواتهم مع ال (هم)، في إطار التعالي الديني ووهم التميز الذي رسخته تلكم العقائد في أتباعها، على الرغم من أن النهضات الفكرية إنما قامت على مبدأ حذف الجزء(دين بعينه) لصالح الكل (الإنسان)، وما تلى ذلكم من قيام تلك الشعوب بكل أطرافها المختلفة عقديا وطائفيا بتأسيس مبدأ الحكم الذاتي المشترك. فنستنتج أنه إذا كانت هذه الفرضية هي الفرضية القائمة فإن مشكلة نبذ الشرق للعلمانية ما عادت قضية سياسية يمكن إستسهال تداركها بربيع عربي أو قرار تشريعي، بل سنكون وللأسف أمام إنتكاسة أخلاقية خطرة تعكس فجوة قيمية يصعب ترميمها على المدى القريب. ويبقى أملنا الوحيد لحل الأزمة في الشرق هو أن نترقب ولو لمرة واحدة في التأريخ حدوث ثورة فكرية راسخة فيه، ثورة تمكنه من تدارك حقيقة أن العلمانية ليست سياسة بقدر ما هي ضرورة أخلاقية.