آخر الأخبار
 - - الوعي هو أكثر بكثير من أن يكون شوكة، انه خنجر في اللحم. أميل سيوران 1911- 1995

الثلاثاء, 03-فبراير-2015 - 01:11:06
الاعلام التقدمي- عدنان المبارك -



- الوعي هو أكثر بكثير من أن يكون شوكة، انه خنجر في اللحم. أميل سيوران 1911- 1995

(فوزي العصابي، غازي الثرثار اللي ما يشغّل دماغه كثير، مجيد المضحك الحالم بالجمال الجثماني لكن هيهات ! فهو قصير جدا  ورقبته هزيلة، وهناك أنا الذي يبحث عن سعادة دائمة، أقصد راحة ورضا وهدوء بال، في زقاقنا. قبل أيام تركت وراءي عمر الثالثة عشرة. فها أن السواد يحيط بوجهي، وتحت أنفي زغب أسود قبيح. لا أتذكر من قال لا تدير بال، كل شيء يوّلي مع الريح بدءا بحب الشباب وانتهاء بالحب الأول… مؤس جدا أن أرجع الى ما كان قبل أكثر من ستين سنة).هكذا  فكّر ت قبل قليل، وقد يوجد هناك من يتفق معي بأنه تفكير مضحك، وليكن، فأنا بحاجة ماسة الى الضحك وليس البكاء على الأطلال! (هذه كلمات يستشهد بها الكثيرون في البلاد) يكفيني بكاء ولو أن الأغلبية الكبرى تتظاهر بانها لا تبكي بل هي غاضبة على أن الأمور كشفت عن أكثر من عورة قبيحة.

حنان تقول لأمها انني حسّاس جدا، أخاف وحتى من ظلّي. طيّب، ليكن الحال هكذا رغم أني أتفق مع  حنان  بأن الحياة تطالبنا بخفض مؤشر الحساسية، كماعلينا التقيد بأصول اللعبة والتي علمونا إياها طوال قرون. كل واحد يملك كنزا ولو بهيئة صورة فوتوغرافية أو قطعة نقود من زمن العصملي أو خاتم فضي  أو مسبحة جاءت بها عمتنا أم صادق ، بعد أن قامت بفروض الحج. الآن تركت وراءي مضايقات الحياة  وحتى لو كان هناك بعضها فهي لا تثيرني ولا تغضبني. الآن أفكر فقط بالقضاء على هموم الجسم.

واضح أنها مهمة بالغة الصعوبة. استيقظت في صباح هذا اليوم  ومزاجي عكر الى حد لايطاق. الغريب أني لا أعرف السبب.  

حنان ،أم الولد ، قالت بأن طقس اليوم هو السبب. مسكين هذا الطقس ومعه الجنون السائد في كل مكان ، فكل أوجاعنا نلقيها على هذه الشماعة.

أنا لا أشكو كثيرا، فلدينا أنا وأم الولد تقاعدنا.
حنان ، تخصص يوما في الأسبوع كي تشكو وتناكدني ومهما كانت الأسباب تافهة.

مسألة مزاج يعود الى الحياة كل أسبوع. لا أتذكر أنها كانت قبل عشرين سنة بهذا السلوك المتعب.
لا أقول بأنها تملك بعض الشراسة أو الميل القوي الى الثرثرة والقيل والقال.

أبدا. أمرأة منطوية على نفسها وهادئة ووديعة عموما. ومن هنا جاء اختياري.
من حسين خالي الكبيروالذي هو أفندي من صدق  كما كان ينعته أبي ، يقرأ كثيرا ونظيف وغير مشاكس ولايميل الى الاعتداء على الآخرين (كان لدي خمسة أخوال. بقي  لغاية سنتين مضت حسين وعثمان فقط).

علّق مرة على زواجي من  حنان : أنت محظوظ يا أبني ، فأمرأتك طيبة ولو كانت سيئة لصرت  كسقراط فيلسوفا ! ضحك بعدها طويلا.
كان يحب مثل هذا الضحك كلما سمع نكتة بارعة أو شاهد إسماعيل ياسين وهو يمط شفتيه الأفريقيتين ويلطم خده. عموما كانت أياما حلوة بصحبة الخال جعلتني أنسى الهموم الخاصة والعامة. 

كما أنه كان ذا مواهب متعددة وحريصا على أن يعلمني الكثير من شؤون الدنيا. تزوج في عمر الخامسة والأربعين ، وقالت الأم: (ذبحها على قبلة بعد كل هذا التردد ! ).
صار عنده أولاد كثيرون وحتى أني لا أتذكر أسماءهم. بعض خصال امرأته شبيه بخصال حنان ، و من هنا كان الخال يبدو مرتاح البال.

في الحقيقة هذا مظهر خادع ، فأحيانا كنت أشاهد حزنا عميقا  تفضحه تلك النظرات التائهة والشفتان المزمومتان قليلا.
سألته مرة عن السبب لم يجب بل ربت على رأسي وكأنه أراد القول: لاتدير بال ! كنت صغيرا وجاءني الجواب بعد سنين أي حين كنت في عمر الخامسة والعشرين: (ما يحزنني أني لا افهم كل شيء في هذه الدنيا.

سأختفي كما فقاعة ماء  وأنا من دون علم بهذا وذاك …) تكلم طويلا لكني لا أتذكر كل شيء الآن. كل ما فهمته أن الخال  يتكلم عن أمور أخرى غير هذه التي التصقت بحياتنا.
بيد أن عبوري الستين من العمر  كان يعني فهما آخر لتلك الأمور أو بعضها على الأقل.

في شلّة خالي حسين كانت هناك مختلف النماذج البشرية الا أنهم جميعا شبيهون بالخال خلقيا.

لا أعرف من بقي منهم معنا ومن أخذ ه الرب الى فوق. كلهم ينتهزون أول فرصة كي يضحكوا طويلا.

بعضهم كان يحاكي  الخال بل يبالغ في إطالة الضحك. وهكذا أنا لغاية الآن :.أضحك وأضحك  تخليدا لذكرى الخال حسين أيضا لكن حين أكون لوحدي ، فما يحدث خارج البيت لا يدعو الى الضحك.

صارهذا الخارج وحوشا مفترسة. بعضهم يتظاهر حسب ببقائه أنسانا. ها أني منذ أيام أصلح للعيادات النفسية بل للشماعية. الماضي الطويل يتعاصص مع الحاضر كما العجلات المسننة.

كل هذا بسبب وقت الفراغ  الذي صار يلتهم كل النهار تقريبا .الليل كله وقت فراغ. لاشيء فيه ، لا قراءة، لا استماع الى موسيقى أو الراديو. لا أتلفن ولاهم يتلفنون. لماذا ؟ لاني لا أكترث اطلاقا لما يحدث عندهم.

واضح أنهم لا يكترثون لي أيضا. وكل هذا من رحمة رب العالمين. فضلع كبير من جسم الهموم قد خلع.  صرت مونتاجا لايخلو من البراعة ، لفوزي وغازي. عصابية وثرثرة.

الأول مكانه في منظمة تحت أرضية تلائم عصابيته. والثاني  كي يكون خطيبا في احدى حسينيات المدينة والتي أخذت تتكاثر كما البعوض في المياه الآسنة.

 لوكان هناك رب شفوق وعادل لكنس من حياتي، من حياتنا كل هذه القاذورات. صار دائميا هاجس الانسحار بحياة نظيفة تتخللها موسيقى هادئة وابتسامات نقية وشوارع نظيفة ومضاءة جيدا.

الأطفال يلعبون في ساحات خاصة بهم. الرجال محنّطون في مقاهيهم، النساء صرن جميلات ويعرفن كل شيء عن الجنس وطبخ الطعام الصحي و يجيدن انتقاد السلطة حين تنحرف هذه عن المصلحة العامة.

هناك أيضا هاجس مواجهة الناس الشجاعة والرجولية لقضاياهم بعيدا عن تشنجاتهم المعروفة والمنفرة.

باختصار ينبغي على الرب ترحيل البشرية الى كوكب آخر يعثرون فيه على مواصفات نموذجية لكل شيء.

لا أعرف الى  أين ستقودني هذه الهواجس. ربما الى جحيم أشنع ، ربما الى فراغ سماوي لا شيء فيه سوى بقايا موسيقى أرضية عذبة.

 البارحة عطس الخبّاز حمزة  في وجهي. لم يعتذر. ولم الاعتذار في مثل هذا الدغل الصغير من أدغال العالم. رائحته منفرة الى حد لا يطاق.

 البليد لا يشكو العوز فبمكنته أن يستحم كل يوم. وبهذه الصورة يتعمق غثياني من كل شيء خلقه الرب وعباده. في العام الماضي رفضت عروضا مغرية للعمل في اختصاصي رغم أن التقاعد لايكفي تماما.

 لا أريد نقودهم ولا امتيازاتهم. المانع نفسي تماما: لا أحتمل صغرهم النفسي والعقلي. هذا جنون خطر للعظمة يا رجل ! فأنت لم تخرج الا من هذا الزقاق  القذر.

تتكلم الفصحى وكأنك أمام جامع يحاكي القرآن. جنون من طراز خاص حقا : مثل هذا الوقوف الطويل أمام واقعنا ثم إدارة الظهر له. قبل كل شيء من أنت حتى تتأفأف كل خمس دقائق.

 أنت من هذا الوحل. التصحيح المناسب هنا : ليس الوحل بل النطفة الربائية. بعد باجة البارحة والتي لا أعرف كيف أقتربت منها، ربما احياء لذكريات قديمة ، تتعارك خنافس من أشواك في أمعائي.

كنت ولا أزال مضحكا حين أعمل اسثناءات مع هذا الواقع الذي نعته مجنون الحي ممتاز ب(أبو البراغيث والطيز المكشوف). كل هذا صحيح لكنه  لايعني أن المجنون مراقب غير محايد مثلي.

لن أنسى ما حصل قبل أربعة أيام. سرت في شارع جانبي من الحي التجاري. بحثت عن ليفة حمّام جيدة. دلفت الى دكان  يبيع مثل هذه الحاجيات. كان دهليزه مظلما ، فالمصباح الضعيف في مقدمته لا يضيء الا القليل.

 اذن واصلت السير. دخلت القسم المضاء جيدا من الدكان .التفت الى اليمين أولا كي أعرف أين صاحبه.
كان هناك  باب موارب قليلا لكنه كا ن يكفي لرؤية ما كان يحدث في تلك الغرفة التي  كان الضوء قد  انتشرفيها الى درجة تسمح بما يجري هناك.

 صاحب الكان يغتصب صبيا. كان يلهث ويختنق مثل المصاب بالربو.
ألقيت بضع سلع على الأرض وتركت المكان. في الواقع أدركت بعدها بقليل  أن كل شيء هناك كان اعتياديا.

 فالجنس  ومهما كان منحرفا هو محور الوجود. الجنس بين ذكر وأنثى وبين ذكر وذكر وبين أنثى وأنثى. كل هذا مقبول  ولو أن الله يتظاهر بتفضيله جماعا معيّنا.
 انعطفت في شارع جانبي آخر وجدته أقصر طريق للخروج من سدوم الصغيرة هذه. كانت هناك  جريمة قتل شنيعة : السمّاك أبو حكيم  ينهال بالضرب على  جرو يملأ الطريق بالصراخ.

كان يبول ويتغوط لكن أبو حكيم لا يكف عن الضرب . قراره النهائي أن يقتل الجرو. بالفعل استلقى هذا جثة من دون حراك. سيطرت على غثياني بالكاد مسرعا في الخروج  الى فضاء أكبر.
 وكان هذا الفضاء  الشارع الرئيسي لحيّنا التجاري. أضواء ساطعة وأغان وموسيقى تختلط مكوّنة ضجة هجينة. ربما كانت تصدح  أيضا في كوكب آخر من كواكب الله أو سلطة عليا أخرى.

 وجدت أن كل هذا يكفينا الى نهاية العمر. ما العمل اذا كنت أزاحم فوزي بعصابيته. هذا الصباح كان آخر بعض الشيء بسبب النافذة المفتوحة ، ومن هناك كان للطبيعة منظر آخر : هدوء مطبق، شمس لاترحم في سطوعها.
 أظنها كانت السبب في جنون الطيور التي تصعد وتهبط  بسرعة تكاد  تكون ضوئية فوق الأرض التي سادها اللون الأخضر.

ما هذا ياصانع الطبيعة ! هل لك أن تفك أقفال النفس وتنسّل الى داخلي كي تعمل ترتيبا مثل ترتيب الخارج هذا؟ صباح  كهذا لجم عصابية فوزي بل كاد أن يخرجها شبه كاملة مني.
 أخذت أفكر بأن حاميي  هو ملك مجهول لكن له عرشا كبيرا وقلبا يرأف بالحيوانات المنعوتة بالعاقلة.

صرت أخاف الخارج الى درجة الفزع. وعصابية فوزي تبدو مجرد خدش بسيط في جسم عملاق.  حنان فهمت الأمر ولم تفتح باب غرفتي.
وهكذا كنت أحملق في ظلمة الغرفة التي انتشرت بعد حجبي النافذة بستارتها السميكة. الغريب أني كنت جائعا  لكن ليس كثيرا .لا ، لن أخرج من الغرفة لمثل هذا السبب.الذي وجدته تافها.

 صوت فيّ يوضح لي الأمر : لا حل الا بالصعود أو الهبوط الى سيّار آخر. والأحسن أن يكون مجهولا لدى الرب وعباده. أنا على استعداد كي يكون الثمن فقدان حواسي. ثمة طرق هاديء على الباب.
أكيد أن أمرا مهما  دفع حنان الى الطرق. اذن ، أجبت : تفضلي حنان.  نعم كانت هناك حنان . فتحت الباب واسعا و قالت بصوتها الخافت والحيي بعض الشيء: لديك ضيف. أفسحت الطريق  للدكتور عماد.

ألقى التحية وقال بأنه كان ينتظرني وفق الموعد في  يوم الأثنين الماضي. قال كلمات أخرى لكني لم أسمعها بوضوح .

كنت مغتاظا وألعن هذه الذاكرة التي بلعت الموعد . لطيف من الدكتور أن يأتي بنفسه الي ّ لكن ألا يكفي أن يهاتفني. أخذت أشك  في الأمر  خاصة أن هذا الدكتور من أقارب حنان التي قامت بمثل المبادرة و رّتبت  الزيارة  الأخيرة.  أنا واثق من أن الأمر لايقتصر على زيارة بل  ترتيب استلقاء في قاعة مع  فوزيين و ثرثارين ومجيدين آخرين. ولتكن الخاتمة  هكذا: عصابية وثرثرة وتمارين للجمال الجثماني خاصة أن جسمي ليس بالعاطل تماما. ألم يقل جدّنا طلعت ان الحركة بركة. أما الثرثرة فلا ضرر كبيرا فيها ، ربما سأعرف أكثر عن فضائح الآخرين. العصابية ليست بالأمر الجيد  أيضا فأنا أعجز عن منافسة فوزي الذي كان نمرا صغيرا أطلق من قفصه. عموما  رحل هو  قبل عشرين سنة. الدكتورجاء اليّ. خبر مثير.لأضحك على طريقة الخال حسين : محتمل جدا أن فوزي ترك لك في وصيته عصابيته… ها، ها ، ها …

  اخبرت الاثنين بنيتي في تغيير ملابسي، وأغلقت وراءهما الباب. أدرت المفتاح  كي لا يزعجاني وأنا أستمع الى موسيقى من كوكب آخر.
وبعد الموسيقى لا أعرف كيف ستكون الحال. احتمال ليس بالضعيف أن أذهب مع الدكتور. هناك بعض الوقت للتفكير بالأمر.

 اللعنة على التفكير. سيظل الباب مغلقا مثل رأسي ، مثل خارج الغرفة ، مثل أرضنا التي أكتشفت وليس اليوم بأنها عاقر، مثل ماذا  أيضا ؟ لدي كفاية من الوقت كي أفكر رغم أني لعنت التفكير قبل لحظات.
 لايهم، أنا أعتدت على انزال اللعنات، مرة على النفس وفي أخرى على الآخرين  وهلم جرا…

 
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)