آخر الأخبار
 - تماماً كمخـلوق خـرافي، أو كوحـش طالع من أحجـية أفريقـيَّة قديمـة، ظـلَّ جـوزيف كـوني (1961م ـ ….)، بملامحه القاسية، وشعره الغزير المضفَّر، يجوس من غابة إلى غابة، على رأس "قطيع"..........

الأحد, 18-يناير-2015 - 10:02:53
الاعلام التقدمي-كمال الجزولي -

(1)
تماماً كمخـلوق خـرافي، أو كوحـش طالع من أحجـية أفريقـيَّة قديمـة، ظـلَّ جـوزيف كـوني (1961م ـ ….)، بملامحه القاسية، وشعره الغزير المضفَّر، يجوس من غابة إلى غابة، على رأس "قطيع" من أتباع قساة الملامح، مثله، ومضفَّري الشَّعر، أيضاً، ومشرَّدين، مطاردين، يثيرون الفزع، بقلوبهم المتحجِّرة، وينشرون الرُّعب وسط ملايين القرويين المساكين الذين يعرفونهم باسم "تونغ تونغ"، أي "إقطع إقطع"، كناية عن تعطشهم لبتر الأعضاء، حتَّى الأنوف والشِّفاه، بسكاكين شديدةِ المَضَاءِ، يسمونها "بانغا"، وذلك عبر أحراش، وأدغال، ومستنقعات التُّخوم، بين يوغندا، والكونغو، وجنوب السُّودان، وأفريقيا الوسطى، بعد أن طردهم الجَّيش اليوغندي من شمال البلاد.
ومنذ 2005م، وبطلب من يوغندا، أضحى كوني وكبار أعوانه مطلوبين للمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضدَّ الإنسانيَّة، منها قتل زهاء 100 ألف شخص، واختطاف ما بين 60 ـ 100 ألف طفل، والتَّسبُّب بنزوح مليونين ونصف مليون شخص، فضلاً عن الاغتصاب، والتَّشويه، وبتر الأطراف، وتجنيد الأطفال، وما إلى ذلك.

(2)
كانت عمَّة كوني، واسمها أليس أوما، وتُلقَّب بـ "لاكونيا"، ومعناها "المتنبئة"، في لغة قبيلة الأشولي التي لطالما دعمت نظام عيدي أمين المدحور، والتي تنتشر على امتداد القرى بين شمال يوغندا وجنوب السُّودان، قد زعمت أن الروح المقدسة خاطبتها، ذات رؤيا رأتها، وأمرتها بالإطاحة بحكومة موسيفيني، فنظمت هذا "القطـيع"، في 1986م، كحركة معارضة، وأطلقت عليه اسم "جـيش الرَّب للمقاومة Lord Resistance Army"، ويُعرف، اختصاراً، بـ "LRA". ويبلغ عدد الأطفال المجنَّدين فيه، حسب اليونيسيف، 40 ألفاً، بنسبة 80% من قوامه. وفي العام 1987م تولى ابن أخيها قيادته، ليشعل، بموجب رؤيا عمَّته تلك، حربه "المقدَّسة" ضدَّ النِّظام، في خواتيم الثَّمانينات، بهدف الإطاحة به، وإنشاء دولة ثيوقراطيَّة مسيحيَّة، محله، تستند، بالأساس، إلى الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، والوصايا العشر!

(3)
هكذا نشأ "جيش الرَّب" كحركة "إرهاب ديني" بامتياز، مثله، تماماً، مثل المنظمات "الإرهابيَّة" المنبثقة عن "الإسلام السِّياسي"، في شتَّى بلدان المنطقة والعالم، والتي تروم تأسيس دولة دينيَّة، كالقاعدة، وداعش، وبوكو حرام، وجبهة النصرة، وشباب المجاهدين، وما إليها، حيث لا اختلاف بين "الأنبياء الكَذَبَة" الرَّابضين، بتوجُّهاتهم الإسلامويَّة المزوَّرة، خلف هذه الحركات، وبين "النَّبيَّة الكذَّابة" الرَّابضة، بتعاليمها الكنسيَّة الملفقَّة، خلف أكذوبة "جيش الرَّب"!
إن كلَّ "إرهاب"، عموماً، وكلَّ "إرهاب ديني"، على وجه الخصوص، إنَّما يبدأ بالتخلُّق، نطفة، في رحم "التطرُّف" على صعيد الفكر، بالأساس. ثمَّ يأخذ في النُّمو متشكِّلاً عبر مختلف أطوار التَّشكُّك في الآخر، ثمَّ ازدراء عقيدته، وتحقيرها، ورفضها، ثمَّ التَّعبير عن كراهيته، ثمَّ تقرير سلبه حريَّته تماماً، ثمَّ استهدافه بالاجتثاث من الوجود نهائيَّاً، بإنفاذ أفعال مادِّيَّة تتَّسم بالعنف في مواجهته. وبذا يتحوَّل "المتطرِّف" إلى "إرهابي"، و"الآخر" إلى "ضحيَّة"، فرداً كان أيُّهما، أو جماعة، أو حتى دولة، أو نظاماً سياسيَّاً.
"الإرهاب"، إذن، وليد "التَّطرُّف" الذي هو قرين الانغلاق، واعتزال "الآخر"، و"تكفيره"، وغالباً ما ينتهي بالعمل على سحقه، وفق أفكار تدميريَّة، كتلك التي روَّج لها، مثلاً، أبو الأعلى المودودي وسيِّد قطب.
بعبارة أخرى مختصرة، فإن "الإرهاب" عموماً، و"الدِّيني" خصوصاً، إنَّما يبدأ، أوَّل ما يبدأ، بـ "تطرُّف الفكر" لينتهي في فوهة البندقيَّة أو على حدِّ السَّيف .. سيَّان!

(4)
ولكأنَّما النِّظام السُّوداني ليس فيه ما يكفيه، أفضت خراقات علاقاته الخارجيَّة في محيطه الإقليمي، منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، والعداوات التي راكمها مع أهمِّ دول المنطقة، إلى اتِّهامه، ضغثاً على إبالة، بممارسة "الإرهاب"، تارة، كما في حادثة حسني مبارك؛ وبإيواء "الإرهابيين"، تارة أخرى، كما في حالة أسامة بن لادن؛ وبدعمهم، تارة ثالثة، كما في نموذج "جيش الرَّب". ولأن تلك الاتهامات لم تجد صدقيَّة كافية في دفعها، على صعيد السلوك العملي من جانب الحكومة، فقد ظلت تنمو، ملتصقة بها، كنبات السَّلعلع، طوال السَّنوات الماضية.
من ذلك، مثلاً، تناقل الإعلام العالمي، في 2012م، لتصريح كولونيل يوغندي باعتقالهم عنصراً بجيش كوني في زيٍّ عسكريٍّ سوداني، وبحوزته سلاح وذخيرة مِمَّا يستخدم الجَّيش السُّوداني (بي بي سي؛ 30 أبريل 2012م). وكانت الأحداث، قبل ذلك، قد أخذت تتلاحق، لاهثة، في تصعيد خطر، ابتداءً من أواخر 2011م. ففي منتصف أكتوبر من ذلك العام أعلن أوباما عن إرسال 100 جندي أمريكي لمساعدة يوغندا في محاربة "جيش الرب". وفي مارس 2012م قرَّر الاتحاد الأفريقي نشر 5000 جندي للبحث عن كوني (بي بي سي؛ 30 أبريل 2012م). ورصدت أمريكا جائزة قدرها خمسة ملايين دولار لمن يساعد في العثور عليه (سكاي نيوز؛ 21 مايو 2013م). وأكَّد تقرير من واشنطن لمجموعة (المبادرة لحلِّ أزمة "جيش الرَّب" للمقاومة ـ RESOLVE)، أن قيادات سودانيَّة نافذة ساعدت كوني، وبعض أعوانه، على الاختباء، بأن قدَّمت لهم "ملاذا مؤقتاً .. عـلى الأقـل بيـن عامـي 2009م و2013م". وتضمَّن التَّقرير صوراً بالأقمار الصِّناعية لمعسكر أخلوه، للتَّو، بعد رصدهم فيه أواخر 2012م، على طول الحدود السُّودانيَّة المتنازع عليها مع جنوب السودان. ولعلَّ أخطر ما في التَّقرير، حسب منشقين عن كوني، أن الأخير استمرَّ، حتى أثناء لجوئه إلى السُّودان، في "قيادة هجمات ضد المدنيين في البلدان المجاورة"، من منطقة كافيا كينجي الحدوديَّة التي لا يحقُّ لقوَّات الاتِّحاد الأفريقي دخولها. وأشار مايكل بوفينبورغ، رئيس "ريسولف"، إلى أنه "طالما أن كوني قادر على الاختباء في السودان، فبإمكانه الإفلات من ملاحقات الجيش اليوغندي بعبور الحدود". وفي الأثناء استمرَّت اتِّهامات المسؤولين اليوغنديين للسُّودان بتوفير المخبأ له. وأكَّد العقيد فيليكس كولايقي، المتحدث الرَّسمي باسم الجيش اليوغندي، أن التَّقرير يدعم فرضيَّتهم بأن "جيش الرب" يستفيد من دعم السُّودان (الجزيرة نت؛ 26 أبريل 2013م).
وعلى الرُّغم من نفي الحكومة السُّودانيَّة، فإن بان كي مون، الأمين العام للمنظمة الدَّوليَّة، صرَّح بأن مصادر موثوقاً بها أكدت أن كوني، وبعض قادته، عادوا يبحثون عن ملاذ آمن في جيب "كافيا كينجي" (سكاي نيوز؛ 7 مايو 2014م). كما وأكَّدت المصادر، حتَّى بعد ذلك بستَّة أشهر، أن هؤلاء القادة مختبئون في مناطق بين جنوب السودان، والسودان، وأفريقيا الوسطى (الجزيرة نت؛ 9 نوفمبر 2014م).

(5)
من بين 4 قادة كبار مع كوني، أمكن القبض، خلال عامي 2012م و2014م، على الميجور جنرال قيصر أشيلام (بي بي سي؛ 13 مايو 2012م)، وعلى الليفتانت تشارلز أوكيللو (سكاي نيوز؛ 22 أبريل 2014م). ثم ها هو مطلع 2015م يحمل لكوني نبأ ثالثاً غير سارٍّ، بالمرَّة، حيث سلم نائبه دومينيك أونغوين نفسه، قبل أيَّام معدودات، للقوَّات الأمريكيَّة، وهو الرَّجل الثاني في "جيش الرَّب"، وقائد "فرقة سيناء" سيئة السُّمعة، والمسؤولة عن كلِّ الفظائع المرتكبة بشمال يوغندا (بي بي سي؛ 7 يناير 2015م).
هكذا، إذن، ضاق الخناق على كوني، واقتربت نهايته، ولم يعُد القبض عليه سوى مسألة وقت لا غير. أما أونغوين، نائبه المطلع على أدقِّ أسراره، وخبايا عمليَّاته، والملم بتفاصيل الدَّعم الذي ظلَّ يتلقاه، والجِّـهات التي يسَّـرت لهم التَّقـرُّب إلى الله زلفى بإعمال سكاكين "بانغا" في أجساد القرويين البؤساء، فلا بُدَّ أن تحقيق الآي سي سي معه قد انفتح، فانفتحت السِّيرة على آخرها، حيث لن يجد الرَّجل الذي اختطفه كوني، أصلاً، وجنَّده، وهو، بعدُ، طفلٌ، ما يعصمه من الاعتراف بكلِّ شئ .. كلِّ شئ!
***
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)