آخر الأخبار
 - مع اندلاع الأزمة الناجمة عن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" على مدينة الموصل، وما أعقبها من تطورات، بدا أن الأحداث تصب في اتجاه يسمح لموسكو

الخميس, 17-يوليو-2014 - 12:45:24
مركزالاعلام التقدمي- وكالات -
مع اندلاع الأزمة الناجمة عن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" على مدينة الموصل، وما أعقبها من تطورات، بدا أن الأحداث تصب في اتجاه يسمح لموسكو وحلفائها الإقليميين بتحقيق بعض المكاسب في أكثر من ملف، وإن كان بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال.

بالإضافة إلى الأبعاد الإقليمية لهذه الأزمة، وكيفية الاستفادة منها من قبل حلفاء موسكو في طهران وبغداد ودمشق، فهناك أيضاً البعد الدولي الخاص بالتنافس الروسي الأمريكي؛ لذا سيتم التطرق أولاً إلى الإطار العام الحاكم لهذا التنافس، قبل أن نأتي على الأزمة الحالية، وكيف تتم الاستفادة منها من قبل روسيا وحلفائها الإقليميين.

 تحوّل القوة ومحفزات التأزيم

يصنف برجينسكي الدول وفق معياري القوة والرضا إلى أربعة أنواع؛ دول قوية وراضية, ودول قوية وغير راضية, ودول ضعيفة وراضية, ودول ضعيفة وغير راضية. ويكون النوع الثاني من الدول القوية وغير الراضية هو مناط التحليل عند الحديث عن تحولات توازنات القوى وما يرتبط به من تزايد احتمالات التأزيم أو نشوب حروب.

يمكن الإشارة إلى طرفين رئيسيين من الأطراف المنخرطة في صراعات المنطقة ينتميان إلى هذا النوع الذي تتوفر لديه أسباب القوة، لكنه غير راضٍ عن وضعيته في النظام الدولي أو الإقليمي القائم. هذين الطرفين هما روسيا على الصعيد العالمي، وإيران على الصعيد الإقليمي.

على هذا النحو لا يمكن فهم سلوك هذين الطرفين في الأزمات المشتعلة، في المشرق العربي على وجه الخصوص، من دون استيعاب رؤية كل منهما للصراعات القائمة، وسعي هذين الطرفين إلى تحقيق مصالحه. كما لا يمكن فهم مسار أزمات الإقليم دون الأخذ في الاعتبار طبيعة الارتباط بين النظام الإقليمي وبين النظام الدولي، ومن ثم حدود الاختراق المتبادل بينهما.

 السلوك الروسي وقضايا المنطقة العربية:

يبدو السؤال إذن: كيف نفهم السلوك الروسي في أزمات المشرق العربي حالياً؟ وكيف نضع ذلك في سياق صراعات النظام الدولي؟

نقطة البدء في التحليل يجب أن تكون رؤية الدولة المهيمنة في النظام الدولي لطبيعة التحولات التي يمر بها هذا النظام ومعادلات القوة بداخله، ومن ثم كيفية تعاطيها مع هذا التحول، وما يسمح به ذلك من هوامش ومساحات لتحرك الأطرف الأخرى الرافضة لهذه الهيمنة، بشكل قد يختلف بين منطقة وأخرى من العالم.

تعد الصين وروسيا  أكثر الدول تهديداً لنظام القطبية الاحادية وقيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي؛ غير أن استجابة الولايات المتحدة للتهديدات التي يتضمنها الصعود الروسي والصيني يعكس إعطاء أولوية أكبر لطبيعة المخاطر والتهديدات المترتبة على زيادة قوة وثقل الصين، وهو ما ينعكس على رؤية الولايات المتحدة لما يمكن أن نسميه البعد الإقليمي للنظام الدولي من جهة، ولمنهجية التعامل مع هذه المخاطر من جهة أخرى، وهو ما يمكن أن نوضحه على النحو التالي:

1 – يشهد مركز الثقل الاقليمي لصراعات النظام الدولي انتقالاً تدريجياً تنتهي معه مرحلة شكل فيها الشرق الأوسط المختبر الأساسي للتوازنات الدولية، فخلال حقبة الحرب الباردة كانت أوروبا هي الترمومتر لتوازنات النظام الدولي الذي أخذ صورة القطبية الثنائية, وبعد انتهائها انتقل مركز الثقل من أوروبا إلى الشرق الأوسط كمسرح لتجريب توجهات القوة الأعظم التي أصبحت منفردة بقيادة النظام؛ وعقب عقدين من هذا التجريب للسياسات الأمريكية في المنطقة بدأ مركز الثقل في الانتقال التدريجي من الشرق الأوسط إلى الباسفيكي, وهو التوجه الذي توّج رسمياً بإصدار البنتاجون مطلع عام 2012 تقريراً عن التوجه الاستراتيجي الأمريكي الجديد, يعطي فيه الأولوية لمنطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي, وهو ما يأتي استجابة لارتفاع وتيرة التحول في مظاهر الصعود الأسيوي من الوجه الاقتصادي إلى الوجه السياسي, بشكل أحدث حراكاً في صراعات المحيط الهادي, عبرت عنه بعض مؤشراته الأولية، سواء باتجاه التصعيد كما في صراع الصين واليابان حول الجزر المتنازع عليها والصراع بين الكوريتين, أو باتجاه التسوية كما في صراع اليابان وروسيا حور جزر الكوريل. بذلك فإن السياسة الأمريكية خلال فترة أوباما الثانية تشهد مرحلة انتقالية على طريق التراجع في مستوى الاهتمام بصراعات الشرق الأوسط.

2 – يتسم نهج السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترة أوباما بالنزعة الانسحابية, على نحو مغاير للنزعة التدخلية التي تميزت بها فترة حكم بوش الابن, حيث كان على رأس أولويات إدارة أوباما سحب القوات الأمريكية من كل من العراق وأفغانستان, وحتى في حالة التدخل الغربي في ليبيا, فقد كان تدخلاً جماعياً من حلف الناتو تحت مظلة الأمم المتحدة وبموافقة عربية, فضلاً عن أنه كان تدخل مؤقت اعتمد على الضربات الجوية وليس على التدخل البري, والأهم أنه كان أقل خطورة من حيث القدرة على الحسم وعدم تفجير انقسامات وصراعات يصعب السيطرة عليها, وهو الأمر غير المتحقق في الحالة السورية, حيث تبرز الخبرة الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان والمتعلقة بـ "مشكلة اليوم التالي" للتدخل, وكيفية السيطرة على الصراع في مجتمع طائفي منقسم على أسس دينية ومذهبية وعرقية, وكل طائفة لها امتدادات إقليمية في الدول المجاورة. هذا النهج يعكس استجابة أمريكية لطبيعة التهديد الصيني الذي يتسم بطبيعة غير تدخلية تنزع نحو زيادة قوة الدولة استناداً إلى أرضية اقتصادية صلبة، وهو ما يفرض على الولايات المتحدة عدم استنزاف نفسها في مغامرات خارجية غير ذات صلة بطبيعة التهديد الذي تمثله الصين ذات القوة الاقتصادية الضاربة.

في إطار هذين الملمحين المميزين لطبيعة السياسة الأمريكية عالمياً، يمكن أن نفهم السياسة المتبعة روسياً في عدة مناطق من العالم، والتي يمكن القول أنها استطاعت الاستفادة من هذا النهج الأمريكي، حيث تتسم السياسة الروسية بسمتين أساسيتين:

1 – امتداد النفوذ الروسي: السعي إلى استغلال الانصراف الأمريكي عن الاهتمام بأقاليم لا تمثل أولوية استراتيجية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء توجهها الاستراتيجي الجديد ناحية الباسفيكي، ومن ثم السعي إلى تحصيل مكاسب روسية جديدة في هذه الأقاليم، وإن أمكن وراثة النفوذ الأمريكي وتحويل هذه الأقاليم إلى مناطق نفوذ روسية؛ ويبرز هذا على نحو شديد الوضوح في كل من شرق أوروبا والشرق الوسط

2 – اتباع نهج تدخلي مضاد للانسحابية الأمريكية: يعتمد على المبادرة والابتزاز والتصعيد،  إرتكاناً إلى أن التصعيد الروسي لن يقابله رد أمريكي على ذات المستوى، نظراً للنزعة الانسحابية الغالبة المشار إليها ، ونأيها عن التورط في صراعات قد تستنزفها اقتصادياً وتعجزها عن مواجهة تهديدات استراتيجية تحتل أولوية لديها، أي الصين المستندة بالأساس إلى قوتها الاقتصادية.

في هذا السياق يمكن أن نفهم الانخراط الروسي في أزمات الإقليم، حيث يمكن القول أن المنطق الحاكم لهذا السلوك هو التأزيم بغرض إجبار الولايات المتحدة على التفاوض، بغرض إعادة ترتيب الأوضاع والتوصل إلى قواعد وأسس جديدة تعكس علاقات القوة بشكل يرضي الطرف الساعي لتغيير التوازنات القائمة. وبهذا يصير استحكام أزمة واشنطن في الشرق الأوسط هدفاً في حد ذاته.

تلتقي هذه السياسة الروسية مع توجهات الطرف الإقليمي الآخر الساعي لتغيير معادلات القوة في المنطقة، أي إيران. وليس من المستغرب أن إيران وحلفائها كانوا خلال العقد الماضي على الاقل محوراً لمعظم بؤر التوتر الاقليمي. لكن المفارقة هنا أتت خلال السنوات الثلاث الأخيرة من سعي خصوم إيران إلى تبادل المواقع معها بشأن مسألة تغيير الأوضاع الإقليمية، فأصبحت إيران وحلفائها في وضعية الدفاع عن الأوضاع القائمة في كل من سوريا والعراق.

 

"داعش" والسياقات الإقليمية والدولية

في ضوء التصور الذي تقدم شرحه في القسم السابق من المقال، كيف يمكن فهم التطورات الجارية في العراق، منذ سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل وما تبع ذلك من تطورات، من زاوية تأثيرها على مصالح موسكو وطهران، وحلفائهم في كل من بغداد ودمشق؟

يمكن النظر إلى هذه التطورات باعتبارها نقطة تلتقي عندها مصالح الأطراف الحليفة في العواصم الأربعة، سواء فيما يتعلق بالصراع في سوريا، أو فيما يخص أزمة النظام السياسي العراقي، أو بالنسبة لتوسيع رقعة النفوذ الروسي في العراق.

من ناحية أولى: أفادت داعش النظام السوري منذ نشأتها وحتى الآن؛ سواء كان ذلك من خلال وجودها في سوريا عبر قتال بقية الفصائل المسلحة المعارضة للنظام على اختلافها، فانشغل الجيش الحر بقتالها في بعض المناطق، فضلاً عن شقّ الصف الجهادي على وجه الخصوص، مما حدا بالبعض إلى اعتبار أن داعش صنيعة المخابرات السورية؛ أو من خلال انتقالها إلى العراق، ومن ثم تخفيف الضغط على الجبهة السورية عبر نقل مركز نشاط التنظيم إلى الجوار الشرقي.

كان نظام بشار الأسد أكثر المستفيدين من الأطراف المحلية في الصراع السوري، من وجود داعش، على الرغم من تكبده بعض الخسائر بسبب سيطرتها على حقول النفط في دير الزور مثلاً، وإن كانت سيطرة داعش على هذه الحقول تم من خلال انتزاعها من قبضة فصائل أخرى مسلحة، حيث كانت القوات الحكومية قد فقدت السيطرة عليها سابقاً لصالح هذه الفصائل؛ كما وفرت داعش لنظام الأسد غطاءً سياسياً لإدعاء محاربة الإرهاب.
وفي ذات الوقت أضعفت المعارضة السورية المسلحة التي انشغلت بدورها في قتال التنظيم؛ ثم أخيراً قيام التنظيم بالترجمة السياسية لمكاسبه العسكرية في الموطن الأساسي لنشأة التنظيم بالعراق، بعيداً عن مناطق القتال على الجبهة السورية.

من ناحية ثانية: مثّلت داعش فرصة لنظام المالكي، وحليفته إيران، لتشويه الانتفاضة السنية المستمرة في بعض المحافظات السنية منذ شهور؛ فقد أسبغت داعش على الانتفاضة السنية وجهاً إرهابياً من خلال ممارساتها المتطرفة، وكان هذا بمثابة فرصة ذهبية للمالكي وإيران لإعادة صياغة وجه الصراع على اعتبار أنه حرباً ضد الإرهاب، وليس قمعاً عسكرياً لمطالب مشروعة لقطاع هام من الشعب العراقي، أي السُّنَّة.

إن الأزمة الجارية تتيح لإيران تقليل حدة التشققات داخل المعسكر الشيعي؛ فقد عملت إيران على ضمان السيطرة على الحكم في بغداد، ليس فقط سياسياً، لكن أيضاً عسكرياً، وهو ما أدى إلى تكثيف دعمها لنوري المالكي الذي احتفظ بدوره بالوزارات الأمنية والعسكرية في الحكومة في ولايتيه السابقتين، مما كان من نتيجته تمادي المالكي في التعامل الخشن مع خصومه السياسيين، لاسيما قادة الانتفاضة السنية، من جهة، ومن جهة أخرى فقد أدى ذلك إلى انفضاض بعض الأطراف الشيعية الأخرى من حوله، والتي أرادت الاحتفاظ بمسافة كافية من مواقف المالكي ذات التكلفة السياسية العالية. أما الأزمة الحالية، فإنها سمحت لإيران بإدماج بعض الميليشيات الشيعية المسلحة في معركة عسكرية واحدة بجانب المالكي ضد خصومه، وهو ما قد يمثل توطئة مناسبة لإعادة ترتيب البيت الشيعي مستقبلاً وفق شروط جديدة تقلل من حدة الانقسامات الحالية.

من ناحية ثالثة، واتصالاً بما أوردناه في القسم الأول من المقال، فإن التطورات الأخيرة أتاحت لروسيا النفاذ إلى الساحة العراقية عبر بوابة التسليح، وذلك بالتوازي مع تأخر الولايات المتحدة عن تزويد نظام المالكي بالطائرات المطلوبة، وهو الأمر الذي أشار إليه المالكي صراحة غير مرة في لقاءات علنية مع وسائل الإعلام، مما دفعه إلى الاستعاضة عن الطائرات الأمريكية في إدارته لهذه الأزمة بطائرات سوخوي روسية الصنع.

الجدير بالذكر هنا أن هذه ليست المرة الأولى التي تلج فيها روسيا إلى الساحة العراقية من خلال سعيها إلى اقتحام سوق السلاح في العراق، حيث يجب أن نضع التطورات الحالية في ضوء سعي نظام المالكي من قبل إلى فتح باب التعاون مع روسيا في هذا المجال، وهو أحد المجالات التي تعتمد عليها روسيا في توسيع نفوذها عالمياً بالتنافس مع القوى الكبرى الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

نذكّر في هذا السياق بالزيارة الشهيرة التي قام بها المالكي إلى موسكو العام الماضي والتي سعى خلالها إلى عقد صفقة سلاح تتجاوز قيمتها الأربعة مليارات دولار، وهي الصفقة التي أثارت جدلاً واسعاً حينها، لاسيّما بسبب شبهات فساد أثيرت بشأنها. ويضاف إلى ملف التسليح ملفاً آخر وهو النفط، باعتباره يمثل القدم الأخرى التي تسير عليها روسيا في سعيها إلى النفاذ إلى الساحة العراقية.

بالعودة إلى جذر الأزمة التي تكاد تعصف بالدولة العراقية حالياً نجد أن المشكلة تكمن في الطبيعة الطائفية التي أعادت الولايات المتحدة بناء الدولة على أساسها، ومن داخل هذا التصميم الطائفي الطابع تتولد معظم الأزمات التي يواجهها العراق؛ وبذلك يكون المَخْرَج الوحيد القادر على إنقاذ الدولة العراقية هو إدماج الأطراف التي تم تهميشها سابقاً في العملية السياسية، ولكن وفق شروط جديدة؛ وهنا تنشأ نقطة الافتراق بين إدارة أوباما التي سعت إلى إتمام الإنسحاب الأمريكي من العراق، وبين نظام المالكي المصر على البقاء والذي يتصرف على أساس أنه سيكون المتضرر الأكبر من أية تنازلات يتم تقديمها للمكون السني في العراق. وعلى أساس نقطة الافتراق هذه بين الحليفين العراقي والأمريكي، تنشأ الثغرة التي تسعى روسيا إلى أن تلج من خلالها إلى ممارسة دور أكبر على الساحة العراقية.

على هذا النحو يمكن القول أن استحكام الأزمة الأمريكية في العراق يمثل مصلحة روسية، بالنظر إلى أن تراكم الأزمات الدولية غالباً ما يكون مقدمة لإعادة ترتيب الأوضاع بين القوى الكبرى؛ وفي هذا الصدد ينبغي النظر إلى الأزمة التي قد تواجهها أمريكا في التعاطي مع المستجدات العراقية، في إطار تراجع النفوذ الأمريكي في عدة أقاليم حول العالم بشكل عام، والناتج عن الفشل المتوالي في عدد من الملفات في سوريا وأوكرانيا ومصر وغيرها، والذي كان يصب في الغالب في صالح تحصيل روسيا لأوراق جديدة في لعبة الأمم والصراع مع القطب الأمريكي حول مناطق النفوذ. ومن ثم فإن الأزمة العراقية تسعى روسيا إلى جعلها حلقة جديدة في سلسلة ممتدة تهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع في النظام الدولي في غير صالح الطرف الأمريكي.\
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)