آخر الأخبار
 - جاء الاستفتاء الذي نظمته قبيلة الدينكا نقوك في مدينة أبيي في 30 أكتوبر الماضي، والذي انتهي بشبه إجماع على الانضمام لدولة الجنوب ليمثل خطوة انفرادية لاقت رفض جميع الأطراف.........

الأربعاء, 13-نوفمبر-2013 - 09:34:18
مركزالاعلام التقدمي- العربية نت -






جاء الاستفتاء الذي نظمته قبيلة الدينكا نقوك في مدينة أبيي في 30 أكتوبر الماضي، والذي انتهي بشبه إجماع على الانضمام لدولة الجنوب ليمثل خطوة انفرادية لاقت رفض جميع الأطراف، سواء المباشرة أو غير المباشرة (أي الأطراف الثالثة الوسيطة, كالاتحاد الافريقي ومجلس الأمن) المعنية بالصراع. وعلى الرغم من منطقية رفض كل من حكومة السودان وقبيلة المسيرية لهذا الاستفتاء، إلا إن رفض حكومة الجنوب له كان لافتاً. لذلك فإن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو لماذا رفضت حكومة الجنوب الاعتراف بهذا الاستفتاء؟ ولماذا ذهبت عشائر الدينكا نقوك التسع إلى إجراء الاستفتاء على الرغم من تلك المواقف المسبقة الرافضة له، وبالأخص موقف حكومة الجنوب؟.


إن البحث عن إجابة لهذا السؤال يقتضي البحث في ديناميات الصراع في أبيي وتطور استراتيجية كل طرف، وذلك للوقوف على أبعاد الخطوة التي اتخذتها الدينكا نقوك, ومحاولة وضعها في سياق المسار العام لتطور الصراع في المدينة، وسوف تسعى الورقة إلى فعل ذلك، ليس من خلال المنظور التقليدي الذي يسعى إلى تحليل الصراع عبر التركيز على التناقضات بين طرفيه الرئيسيين الممثلين في قبيلة المسيرية الحمر والحكومة السودانية من جانب مقابل قبيلة الدينكا نقوك وجنوب السودان في الجانب الآخر, لكن من خلال التركيز على التناقضات بين مستويي الصراع داخل المعسكر الواحد, أي بين المستوى القبلي المباشر وبين المستوى الوطني.


نظراً لأن دولة جنوب السودان لازالت دولة حديثة النشأة, فإن التناقضات بين مستويي الصراع ظهرت أكثر خلال العقود الماضية بين المسيرية والحكومة السودانية أكثر مما كانت تظهر بين الدينكا نقوك والحركة الشعبية لتحرير السودان قبل الانفصال. ويجادل الباحث بأن هذا التنازع بين المستويين القبلي والوطني داخل المعسكر الواحد, أي بين المسيرية والحكومة السودانية, كان من شأنه زيادة تعقيدات الصراع علاوة على التناقض الرئيسي بين المعسكرين المتقابلين, وهذا التنازع من شأنه أن يتكرر بصيغة مختلفة داخل المعسكر الآخر بعد انفصال الجنوب, أي بين الدينكا نقوك وحكومة جنوب السودان. ولم تكن خطوة الاستفتاء أحادي الجانب من قبل الدينكا نقوك ورفض حكومة الجنوب لها سوى مؤشر على بزوغ هذا التناقض.


بنية وطبيعة الصراع في أبيي


يعد الصراع بين شمال وجنوب السودان نموذجاً للصراعات الممتدة التي يصعب القضاء عليها بمختلف طرق التسوية السلمية أو العسكرية, لذا فإن كافة آليات التسوية لابد وأنها تحمل في طياتها عوامل تجدد الصراع مرة أخرى, ويتضح ذلك بشكل بارز في عملية تحقيق الانفصال بين الشمال والجنوب عقب تصويت سكان ولايات الجنوب بالانفصال عن دولة السودان في استفتاء تقرير المصير, فعلى الرغم من أن انفصال الجنوب كان يُفْتَرَض أن يمثل حل جذري للصراع بين الشمال والجنوب, إلا أن هذا الانفصال ما كان له أن يتحقق دون أن يخلف وراءه بؤر صراعية عالقة.


تبرز قضية أبيي والصراع الدائر حولها بين الطرفين كأحد أبرز هذه البؤر. والملاحظ أن العلاقة بين الشمال والجنوب كانت تسير في اتجاه معاكس للصراع حول أبيي؛ ففي الوقت الذي كانت تُبذَل فيه مساعي تحقيق التسوية السلمية بن الطرفين, صعوداً إلى التصويت بانفصال الجنوب ثم إعلانه دولة مستقلة في مطلع ومنتصف 2011 على التوالي, كان الصراع حول منطقة أبيي يشتد في ذات الوقت, بحيث بدا أن عوامل الصراع بين الطرفين يتم حلحلتها تدريجياً من القضايا الأكثر عمومية المتعلقة بالحكم والسلطة, ليتم سحبها إلى بؤر أكثر تركزاً تتعلق بنقاط التماس ومسارات التداخل بين الكيانين المنفصلين, ومن ضمن هذه البؤر الصراعية منطقة أبيي الحدودية, بما تحويه من موارد نفطية كبيرة, أو بما يتصل بالصراع بين التكوينات القبلية القاطنة فيها, وهي كلها عوامل تتخذ أبعاداً إقتصادية وتاريخية وقانونية وثقافية لا تزيده إلا تعقيداً.


يمكن القول أن الصراع في أبيي له مستويان, المستوى الأول يدور بين دولتي السودان, وموضوعه هو الثروة النفطية في باطن الأرض, بينما المستوى الثاني طرفاه الرئيسيين هما قبيلتيّ الدينكا نقوك والمسيرية الحمر, وموضوعه السيطرة على أرض الأقليم التي تستخدم في نشاطات رعوية وزراعية. في المستوى الأول يكون الصراع في أبيي متفرع عن الصراع الأشمل بين دولتي السودان, ومن ثم فتحليل الصراع عند هذا المستوى يستوجب وضعه في السياق الأعمّ لقضايا الصراع والخلاف بين الدولتين. بينما الصراع على المستوى الثاني هو صراع أصيل وعميق وممتد, وهو الأكثر قابلية للتفاقم وعدم الاحتواء, لاسيما في ظل أن طرفي هذا الصراع كل منهم لديه قوة دفع ذاتية توفر له قدراً من الاستقلالية في إدارته.


التنازع بين هذين المستويين لم يكن موجوداً قبل ظهور الدولة الوطنية في السودان, لكن مع نشأة الدولة السودانية بدأ هذا التنازع في الظهور. وبالرجوع إلى تاريخ الصراع في أبيي, يتضح أن هناك خمسة تحولات مفصلية يمكن رصدها بشأن تتبع تطورات الصراع. كان أول هذه التحولات قبل ظهور الدولة السودانية, لذا فلم يكن له تداعيات مباشرة في ذلك الحين, لكن هذه التداعيات ظهرت على المدى البعيد بعد ظهور الدولة السودانية إلى الوجود, وتبع ذلك التحول الأول أربعة تحولات أخرى, ارتبطت اثنتين منها بحربين أهليتين, بينما ارتبطت الأخرتان باتفاقيتيّ سلام أنهيتا تلك الحربين. وسوف نتتبع التنازع بين مستويي الصراع على طول تلك التحولات الخمسة التي استغرقت قرناً من الزمان.


خمسة تحولات مفصلية


يمكن القول أن طبيعة المشكلة الحالية تعود بالأساس إلى سمات الدولة الوطنية بما تفرضه من ضرورة تعريف حدود الدولة بشكل حاسم, حيث إن النشاط الاقتصادي السائد في المنطقة فرض درجة عالية من التداخل والاستخدام المشترك لأراضي الإقليم بين المسيرية والدينكا نقوك, وكانت الصراعات المرتبطة بأبيي تدور بين القبيلتين بالأساس, ويكون موضوعها الثروة الحيوانية واستخدام الأراضي والموارد المائية في الأنشطة الرعوية والزراعية. لكن في عام 1905, بدأت المشكلة تأخذ طابعاً إدارياً كان هو الجذر الأساسي للصراع السياسي والقانوني الذي اشتعل بعد ذلك بشأن تنازع تبعية المدينة بين الشمال والجنوب بدءاً من استقلال السودان عام 1956 فصاعداً.


في العام المذكور, أي 1905, نقلت الحكومة الأنجلو-مصرية أراضي قبيلة الدينكا نقوك بعشائرها التسع من بحر الغزال إلى جنوب كردفان, في محاولة للتعامل مع المشكلات التي نجمت عن الهجمات التي تتعرض لها قبائل الدينكا في ذلك الوقت, ويمكن اعتبار هذا الأمر بمثابة التحول المفصلي الأول الذي سيؤسس لكل ما سيأتي بعده من تعقيدات.


مع استقلال السودان ونشوب الحرب الأهلية مطلع النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي, بدأ الصراع بين الطرفين الرئيسيين في المدينة يأخذ أبعاداً سياسية تبتعد به عن مصالح الطرفين الرئيسيين وقدرتهم على التحكم به, ليصير منذ ذلك الحين موضع تجاذب كيانات أكبر وأكثر قدرة على توجيه دفة الصراع والتحكم به. كان ذلك من شأنه زيادة تعقيد الصراع من جهة, وتعميق الانقسامات بين طرفيه الرئيسيين من جهة أخرى. لذلك يمكن اعتبار أن الحرب الأهلية الأولى كانت التحول المفصلي الثاني الذي أخذ الصراع إلى آفاق أبعد, فلم يعد مجرد صراع في أبيي فقط, لكن أصبح أيضاً صراع على أبيي بين الحكومة ومتمردي الجنوب. كان من نتاج نشوء هذا المستوى من الصراع أن تعمقت الانقسامات على المستوى القاعدي بين الطرفين الرئيسيين, حيث قامت القوات الحكومية بتجنيد المسيرية للقتال ضد ميلشيات الجنوب التي استعانت بدورها بالدينكا نقوك من أبناء المدينة.


ارتبط التحول المفصلي الثالث بانتهاء الحرب الأهلية الأولى, حيث تم توقيع اتفاق أديس أبابا عام 1972. وهنا يتضح أن طرفي الصراع الرئيسيين في الحرب الأهلية, أي الحكومة السودانية ومتمردي الجنوب, كان لديهم استعداداً دائماً – ولو نظرياً – لتسوية الصراع في أبيي, فتم الاتفاق وقتها على إجراء استفتاء في المدينة, وهو ما تكرر ثانية بعد ذلك في اتفاق السلام الشامل عام 2005. هذا الأمر أدى إلى تحول السلوك العسكري للمسيرية في صراعها مع الدينكا, فبعد أن كان هذا السلوك يقتصر على استهداف الماشية مع نهاية موسم الجفاف بغرض الإستيلاء عليها قبل العودة للشمال, أصبحت هجمات المسيرية ترمي إلى استهداف المدنيين أنفسهم بغرض محاولة التأثير على إمكانية انضمام أبيي للجنوب. بعبارة أخرى, فإن المسيرية قد تغير إدراكهم للصراع, فبعد أن كان يدور مع قبائل الدينكا بالأساس في إطار محاولة الظفر بغنائم وضمان الوصول إلى مصادر المياه في نهر كير جنوب أبيي, أصبح الصراع يرتبط بالأرض نفسها التي أصبحت تبعيتها لأي من الشمال أو الجنوب يهدد إمكانية وصولها لمصادر المياه.


أخذ الصراع على المدينة بهذا الشكل دفعة مضاعفة خلال الحرب الأهلية الثانية, والتي كانت بمثابة التحول المفصلي الرابع في مسار الصراع, حيث تضافرت مخاوف المسيرية والتحول الذي طال إدراكها للصراع مع الدينكا من الصراع على الموارد والغنائم إلى الصراع على الأرض, مع تحول آخر موازي في إدراك الحكومة السودانية عقب اكتشاف النفط في المدينة أواخر السبعينيات. وهنا حدث تحول في توظيف القوات الحكومية للمسيرية, فبعد أن كان يجري توظيفها في سياق الحرب الأهلية ضد الجنوبيين بشكل عام, أضحى توظيفها يتصل أكثر بشكل مباشر بالصراع على أبيي.


هذا التغير الإدراكي لدى كل من المسيرية والحكومة السودانية, على خلفية اتفاق أديس أبابا بداية عقد السبعينيات بالنسبة للأولى, ثم اكتشاف النفط في آخره بالنسبة للثانية, أفضى إلى خلق أهداف عسكرية جديدة يجري العمل على تحقيقها على الأرض في أبيي؛ فقد أدت مجريات الحرب الأهلية الثانية إلى إخلاء مناطق في أبيي من الدينكا بغرض الاستغلال النفطي, و أدى ذلك بدوره إلى خلق أمر واقع لتقسيم الاقليم مستقبلاً, ويمكن اعتبار أن هذا الأمر الواقع كان يسير في صالح الحكومة أكثر مما يسير في صالح المسيرية, فالتقسيم بهذه الطريقة سيصب فيما بعد في صالح ضم المناطق النفطية إلى الشمال, بينما مصالح المسيرية في مناطق الرعي ترتبط بجنوب الاقليم.


كانت نهاية الحرب الأهلية عبر اتفاق السلام الشامل 2005, وما رتبه من النص على إجراء استفتاء في أبيي, في ظل سير الفترة الانتقالية في اتجاه ينبئ بحتمية الانفصال, بمثابة ترسيخ لمخاوف المسيرية, وكان هذا هو التحول المقصلي الخامس. لكن من ناحية أخرى فإن التعقيدات المرتبطة بتسوية الصراع كان من الواضح أنها تحول دون إجراء الاستفتاء في المدينة وفق ما هو متفق عليه, ولم يكن عدم إجراء الاستفتاء مرتبط فقط بممانعة الخرطوم, لكنه ارتبط أيضاً بمرونة جوبا ورغبتها في عدم إفشال مسعاها لتحقيق الانفصال؛ فرغم أهمية أبيي بالنسبة للجنوبيين, إلا أن سلوكهم اتسم بالرشادة بشكل عام, فلم يجنحوا إلى التضحية بمكاسب أكبر في سبيل التمسك بأبيي.


أفضى قرار التحكيم في لاهاي إلى تقليص مساحة أبيي, ومن ثم احتساب حقول البترول الغنية كهيجلج ودفرة ضمن أراضي الشمال, ولم يكن الجنوبيين لديهم اعتراض على الحدود التي أقرتها المحكمة بقدر ما كان هدفهم بالنسبة لأبيي يتركز بالأساس على ضمان إجراء الاستفتاء والالتزام بنتائجه. لذا فإن الطرف الخاسر الأكبر من قرار المحكمة كان المسيرية. وبذلك يمكن القول بأنه مع هذا القرار تكون الهوة قد زادت بين موقف الحكومة وموقف المسيرية. بعبارة أخرى, كان اتفاق السلام الشامل ثم قرار محكمة لاهاي بمثابة تهميش لمصالح المسيرية ومزيد من إخضاع الصراع لـ"منطق الدولة".


مع انفصال الجنوب في 2011 كان من الواضح أن إجراء الاستفتاء في أبيي بات أمراً صعباً, ودون الاستغراق في مزيد من التفاصيل الكثيرة بشأن التطورات الميدانية والسياسية, فإن ما يهمنا في هذا المقام هو استكشاف آفاق التنازع بين مستويي الصراع, وكيف أن هذه الخاصية سوف لن تقتصر على المعسكر الأول على النحو الذي تقدم بيانه, لكنها ستنتقل كذلك إلى داخل المعسكر الآخر, أي بين قبيلة الدينكا نقوك وحكومة الجنوب, وكيف يفيدنا ذلك في فهم مسار الصراع مستقبلاً.


تضارب الأولويات بين جوبا وأبيي


على الرغم من سيطرة قبيلة الدينكا, كبرى قبائل جنوب السودان, بمختلف فروعها, على معظم الجهاز التنفيذي للدولة, إلا أن هذا لا يمنع وجود قدر من الاختلاف بين رؤية قيادة الدولة ورؤية عشائر الدينكا نقوك التسع من سكان مدينة أبيي لأولوية تسوية هذا الملف. وإذا كان من السهل تفهّم تمسّك سكان أبيي من الدينكا برغبتهم المنفردة في إجراء الاستفتاء والسعي المحموم للإنضمام لدولة الجنوب, لكن الذي في حاجة للتفسير هو أبعاد موقف القيادة السياسية في جوبا, والتي تفرض عليها قيوداً في التحرك إزاء هذا الملف, لدرجة إعلانها بشكل رسمي عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء.


من الممارسات الشائعة في النظم السلطوية التركيز على العدو الخارجي, وذلك من أجل توحيد الجبهة الداخلية, وكذريعة للقضاء على الخصوم السياسيين. هذا ما درجت عليه كثير من النظم الحاكمة في الدول النامية على وجه الخصوص, وهذا أيضاً ما كان متوقعاً أن تسلكه دولة جنوب السودان عقب الانفصال. وعلى الرغم من عمق العداء بين الدولة الوليدة مع جارتها الشمالية, الأمر الذي يجعل لممارسات من النمط المذكور أمراً وارداً, لكن طبيعة البنية الاقتصادية والتركيبة الاجتماعية ذات الطابع القبلي والموقع الجغرافي للدولة, كلها عوامل فرضت بعض القيود على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الجنوب في اتباع هذا النمط السلوكي.


يتميز الجنوب بتنوع التركيب القبلي, فبخلاف الدينكا التي تعد كبرى القبائل, يوجد قبائل أخرى كبيرة العدد, من أبرزها النوير والشلك والمورلي. وكما هو الحال في معظم الدول الأفريقية, فإن هذا التنوع القبلي من شأنه أن يخلق صراعاً على السلطة, لاسيما في ظل احتكار القبيلة الكبرى السيطرة على أغلب أجهزة الدولة. وقد شهدت الخلافات بين كبار القيادات السياسية تصاعداً في الأشهر الأخيرة, انتهى بإقالة الرئيس سلفاكير ميارديت لحكومته, بالإضافة إلى إقالة نائبه الدكتور رياك مشار الذي ينحدر من قبيلة النوير, وأمين عام الحزب الحاكم باقان أموم المنتمي لقبيلة الشلك والذي تم إصدار مرسوم بالتحقيق معه.


بخلاف الشرعية التاريخية للسلطة القائمة, ممثلة في حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان, فإنه لا يصير أمامها من سبيل لتعويض شرعيتها السياسية المنقوصة بسبب استبعاد القبائل الأخرى من التمثيل في السلطة إلا البحث عن مصادر أخرى للشرعية, وهي في هذه الحالة شرعية الإنجاز عن طريق العمل على تحقيق الإنعاش الاقتصادي, لاسيما في ظل تدهور مؤشرات التنمية وارتفاع مؤشرات الفساد, والتي توجت بحلول جنوب السودان في المرتبة الرابعة في تقرير الدول الفاشلة الصادر عن منظمة دعم السلام بالتعاون مع مجلة السياسة الخارجية الأمريكية. وكان هذا التدهور في أداء حكومة جوبا أمراً ملموساً لدى كافة الأطراف السياسية في الجنوب, مما جعل بعض الأصوات ترتفع مطالبة سلفاكير بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة في 2015.


عقب إطاحة سلفاكير بخصومه السياسيين المنتمين لقبائل أخرى من داخل التحالف الحاكم, أصبح لزاماً عليه في ظل تدهور مؤشرات التنمية المشار إليها أن يبحث عن وسيلة لتحقيق حد أدنى من الانعاش الاقتصادي, وهو الأمر المرهون في هذه الحالة بتأمين عملية تصدير النفط التي تمثل إيراداته 98% من موازنة الدولة, ونظراً لكون تصدير النفط من الجنوب يتم فقط من خلال دولة السودان التي تعد المنفذ الوحيد لنقل هذا النفط إلى العالم الخارجي في ظل عدم إطلال جنوب السودان على أي بحار, فإن استقرار العلاقة مع الجارة الشمالية يظل له أولوية على ما عداه من ملفات في المستقبل المنظور.


بعبارة أخرى, لم تركن جوبا بشكل كلي إلى التركيز على التناقضات مع الشمال من أجل تماسك الجبهة الداخلية المنقسمة قبلياً, لكنها فيما يبدو في حاجة لاتباع استراتيجية معاكسة عبر مهادنة الشمال من أجل حسم التناقضات الداخلية, وهذا من شأنه تحقيق هدفين لسلفاكير؛ فهو أولاً يستطيع أن يحسم صراعات السلطة لصالحه ضد رفاقه سابقاً وخصومه حالياً, وثانياً فإنه يستطيع بذلك تأمين عملية تصدير النفط بشكل يحقق عائداً مالياً يمكّنه من إحداث إصلاحات وتحقيق تنمية داخلية تدعم شرعية حكمه. هذه الاستراتيجية الجنوبية على قدر ما تحققه من مكاسب لاستقرار حكم سلفاكير بقدر ما تفرض عليه قدراً من المهادنة, أو بالأحرى المرونة, في إدارة ملف أبيي.


في المقابل لا تملك الدينكا أكثر من الضغط على جوبا وإحراجها, بالإضافة إلى فرض أمر واقع سياسي وإعلامي وشعبي أكثر منه ميداني, كما حدث في موضوع الاستفتاء من طرف واحد. ومن جانبها, لا تملك جوبا إلا الموازنة بين رغبات أهل أبيي وبين إكراهات الواقع التي تفرض عليها نمط معين في تعاطيها مع الشمال في هذا الملف, فنجد الحكومة الجنوبية قد أعطت أجازات رسمية للموظفين والعاملين بها من أبناء المدينة للمشاركة في هذا الاستفتاء, لكنها – أي الحكومة – من ناحية أخرى أعلنت بشكل رسمي عدم اعترافها بنتيجة الاستفتاء الذي تم.


 بعبارة أخرى, فإن أبيي ستظل في نظر جوبا عبئاً أخلاقياً في إلتزاماته تجاه حلفائه أكثر منها ورقة أو ملف للمساومة السياسية. ومن ثم فإن غاية ما يمكن فعله هو مهادنة الشماليين والسعي لحل سلمي من خلال حشد الدعم الدبلوماسي وتكثيف الضغوط على حكومة الشمال في هذا الصدد. فلا جوبا تملك المجازفة باستخدام القوة في هذا الملف, ولا الدينكا كذلك تملك فرض أمر واقع بالقوة في ظل تحفز المسيرية الدائم واستعدادهم لفتح النار في سبيل الدفاع عن حقوقهم في الرعي. ولعل الاعتداءات التي يتعرض لها الدينكا في المدينة خير دليل على ذلك, والتي كان من أبرزها اغتيال كوال دينك مجوك, سلطان قبائل الدينكا نقوك في المدينة في الرابع من مايو 2013.


خاتمة


سعت هذه الورقة إلى محاولة تفسير إقدام عشائر الدينكا نقوك التسع على إجراء استفتاء على مصير أبيي. ورفض دولة جنوب السودان بشكل رسمي لهذا الاستفتاء. وحاولت الورقة تفسير هذا التناقض ليس من خلال تحليل الصراع بين أطرافه المتقابلة, لكن عبر تحليله من خلال تتبع التناقضات المكتومة بين أطراف المعسكر الواحد ومحاولة الكشف عنها عبر عقود مضت من تاريخ الصراع. وذهب الباحث إلى أن ما حدث بين افتراق بين مصالح كل من قبيلة المسيرية الحمر والحكومة السودانية عبر محطات مختلفة منذ بدء ظهور الدولة الوطنية السودانية عام 1956, مرشح أيضاً للحدوث بصيغة أخرى بعد انفصال الجنوب, بين كل من الدينكا نقوك ودولة جنوب السودان, ولو بشكل أقل حدة.


في هذا الإطار يمكن لنا النظر إلى خطوة الاستفتاء أحادي الجانب الذي أقدمت عليه الدينكا نقوك. وما تقدم شرحه لا يعني التعارض في المصالح بين الطرفين المتحالفين, لكنه تعارض في الأولويات, ومن ثم تعارض في منهج العمل والاستراتيجية المتبعة؛ فجوبا تتصرف بمنطق الدولة, لذا فهي تعوّل أكثر على المسار الدبلوماسي وترغب في السير إلى آخر مدى على طريق الوساطات والمفاوضات والإجراءات القانونية ومواجهة الخرطوم بالتزاماتها القانونية بشأن إجراء الاستفتاء في المدينة. لكن في المقابل تظل تعقيدات هذا الاستفتاء الخاصة بمن له حق التصويت قائمة في ظل العقبة الكؤود التي تمثلها قبيلة المسيرية الحمر, والتي, نظراً لتعقيدات التوازنات السياسية في الشمال, لا يمكن للخرطوم القفز على مصالحها, كما لا يمكن لجوبا الضغط على الخرطوم في ظل حاجتها الماسة للمنفذ الذي يمثله الشمال لمرور نفط الجنوب إلى الأسواق العالمية, وأخيراً لا تسمح التوازنات العسكرية للدينكا نقوك بفرض أمر واقع على الجميع, فلا يصير أمامها في التحليل الأخير إلا محاولة اتخاذ مواقف سياسية وشعبية ترسخ ادعائاتها في المدينة من جهة, وممارسة أكبر ضغط ممكن على جوبا, بغض النظر عن الأولويات السياسية للأخيرة, لوضعها أمام التزاماتها السياسية تجاه المدينة من جهة أخرى, الأمر الذي يجعل التناقضات بين سلوك الحلفاء الجنوبيين تطل برأسها أمام الجميع من وقت لآخر, كما حدث في الاستفتاء, وكما هو متوقع أن يتكرر في مراحل لاحقة.





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)