آخر الأخبار
 - الرؤية الإسرائيلية عشية الانتصار:

”يوم الأحد 7 تشرين الأول 1973، خيم ظل نكبة على دوله إسرائيل

الثلاثاء, 08-أكتوبر-2013 - 09:45:04
مركزالاعلام التقدمي- وكالات -
الرؤية الإسرائيلية عشية الانتصار:

”يوم الأحد 7 تشرين الأول 1973، خيم ظل نكبة على دوله إسرائيل. ومنذ طلوع فجر ذلك اليوم حتى غروب شمسه، كان مصير إسرائيل كدولة، متوقفا على قدره الصد. ولم تتعرض إسرائيل منذ أصبحت دولة مستقلة وذات سيادة وخلال خمس وعشرين سنة منذ قيامها لخطر الدمار بصورة ملموسة كما حدث في ذلك اليوم المصيري .. في تلك الساعات من يوم السابع من تشرين الأول هدد إسرائيل خطر الهزيمة العسكرية الساحقة، ولم يكن لمثل هذه الهزيمة في المعطيات الخاصة لدولة إسرائيل، سوى معنى واحد لا احتلال، ولا فقدان للاستقلال، بل محو للشعب ولدولته من الخريطة.

لقد صدر هذا التقدير الإسرائيلي لحجم ماحدث في أكتوبر 1973م ولم تمض على الحرب شهور قليله. وقد يبدو للوهلة الأولى أن الكتابه عن الأحداث الساخنة تجعل الميل إلى تضخيمها أمراً طبيعيا متوقعا. وعلى أي حال، فلنحاول تتبع الأمر بعد انقشاع غبار المعارك بفترة.
لقد عقدت الجمعية الدولية لعلماء النفس اجتماعها السنوي العام 1975فى تل أبيب ، في الفترة من 6 إلى10 يناير . وكان الموضوع الرئيسي لهذا الاجتماع هو "الضغوط النفسية، والتوافق النفسي في الحرب والسلام" وكان من بين المتحدثين الرئيسيين في هذا المؤتمر عالم النفس الاجتماعي الشهير ريتشارد لازاروس الذي اختار موضوعاً لخطابه إلى المؤتمرين : “سيكولوجيه المواقف العصيبة ومواجهتها مع إشارة خاصة إلى إسرائيل”.

ويحدد لازاروس موقعه منذ البداية قائلاً : “اننى أخاطبكم اليوم من موقعين: أولا، كواحد من علماء النفس تركزت بحوثه و إسهاماته النظرية في مجال دراسة المواقف العصيبة، والتصرف حيالها، ثانيا، كأمريكي يهودي في أواسط العمر يشعر- شأن غالبية أمثاله - بتوحد كامل مع نضال إسرائيل القومي من أجل خلق وتأمين مكان ليهود العالم في مجتمع إنساني متسامح”.

ثم يعرض لازاروس لرؤيته السيكولوجية للإسرائيليين مقررا إن الإسرائيليين كأفراد يواجهون ما يواجهه البشر عامة من أضرار ومخاطر. ويبدون حيال ذلك ما يبديه غيرهم من تصرفات. ولكن الإسرائيليين - بالإضافة إلى ذلك - يعيشون في ظل توقع القتل أو فقدان الأحبة أو الأصدقاء نتيجة للحرب أو للأعمال الإرهابية.

ثمة خطر مستمر لهجوم معاد قد يسبقه نذير وقد يكون مفاجئا... ويعانى الإسرائيليون أيضاً إحساساً مستمراً بالوحدة في عالم كاره أو غامض .. ولابد أن هذا الإحساس قد تزايد بحدة في الخريف الماضي حين تراجعت إحدى الحكومات عن مواقفها المؤيدة السابقة نتيجة القدرة الجديدة للدول العربية المنتجة للبترول على التحكم في أسعار وكميات تلك المادة الحيوية بالنسبة للعالم الصناعي، هذا بالإضافة إلى مالاقاه ياسر عرفات من ترحيب حار في الأمم المتحدة وما تقرر بشأن طرد إسرائيل من اليونسكو، وكلا الأمرين نتيجة لسيطرة العالم الثالث على التصويت في هذه المؤسسات..

ويمضى لازاروس مبرزا لأثار حرب أكتوبر على الفعل الإسرائيلي قائلا: “لقد أدت حرب يوم الكيبور بنتائجها غير الحاسمة، وخسائرها الكبيرة إلى تغير التقييمات الإسرائيلية السابقة تغيراً جذرياً. و قد حدد لي بعض أصدقائي وزملائي الإسرائيليين عدداً من المسلمات والافتراضات الشائعة التي انهارت نتيجة لهذه الخبرة. ومنها على سبيل المثال إن العرب لن يتحدوا أبداً ضد إسرائيل. إنهم لن يحاربوا بشجاعة أبداً. إن قوات الدفاع الإسرائيلية على درجه عالية من الكفاءة، وأن المخابرات الإسرائيلية تضمن انتصاراً دائماً بأقل قدر من الخسائر. إن لدى قيادة الدولة من الحكمة والخبرة ما يسمح بترك كل شئ لتصرفها.

إن الرأي العالمي سوف يبقى مؤيداً لإسرائيل. إن الوقت في صالحنا.. “ويؤكد لازاروس”.. أن الجمهور الإسرائيلي كان على ثقة في بداية حرب الكيبور من القدرة على التصدي لما يواجه الأمة من مصاعب ، ولم يفقد الثقة كثيراً في القدرة القتالية لقوات الدفاع الإسرائيلية في البداية إلا إن مسار الحرب بعد ذلك قد تطلب تعديلات أساسية لتقييم طبيعة ومدى التهديدات، وكيف ينبغي مواجهتها."

ويستشهد لازاروس بما نشرته إحدى الصحف الإسرائيلية بعد مضى عام على الحرب، حيث قالت : ثمة شئ ما قد تحطم في حرب يوم الكيبور في العالم الماضي. لقد أنقذت الدولة حقا، ولكن إيماننا قد تداعى، ويقيننا قد تحطم وقلوبنا قد تمزقت حتى الأعماق وفقدنا ما يقرب من جيل كامل”.

ويشير لازاروس إلى ما لاحظه من انتشار اللامبالاة لدى العديد من الإسرائيليين قائلاً: “... إن العديد من الإسرائيليين الذين كانوا يدمنون الاستماع إلى نشرات الأخبار في الإذاعة وقراءة الجرائد. قد بدءوا في تحاشى ذلك قدر الإمكان، مما يشير من الناحية السيكلوجيه إلى مدى تدهور الموقف من وجهة نظرهم..”.

ويبرز لازاروس الفرق بين حرب أكتوبر وبقية الحروب التي خاضتها إسرائيل قائلاً :”... ورغم إن الحروب مع العالم العربي كانت بمثابة النمط السائد منذ البداية إلا إنها كانت لحسن الحظ حروباً قصيرة، وكان كل انفجار للعنف يترك إسرائيل أكثر قوة، بل واتساعاً إلى حد ما لقد كانت النتائج إيجابية دائما، حتى مؤخراً . فرغم إن الحروب المستمرة قد كبدت إسرائيل الكثير، إلا أنها لم تعان أبداً من هزيمة كبيرة.. “

وبعد أن يعرض لأثر حرب أكتوبر في كشف زيف الاعتقاد بأن إسرائيل تسيطر تماما على ميدان الصراع، وتضمن فرض النتيجة التي تريدها على العرب؛ يقول لازاروس بٍوضوح”.. لقد كانت حرب يوم الكيبور كارثة سيكولوجيه، بمعنى أنها قد هددت أو دمرت هذه العقيدة. ولسنا نعرف على وجه اليقين ما الذي حل أو  سوف يحل محلها ، والخطر الأعظم هو أنها يمكن أن تستبدل بتعاظم الإحساس بالتهديد، وانعدام الحياة...”.

 و لا يفوت لازاروس قبل أن ينهى خطابه أمام المؤتمر أن يقدم نصائحه وتحذيراته للإسرائيليين مقرراً أنه “ ينبغي على الإسرائيليين إيجاد أسلوب عمل جديد للتصدي للخطر العربي المستمر سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي”. ويمضى لازاروس محدداً ملامح هذا الأسلوب المقترح ناصحا الأجيال الشابة من الإسرائيليين بتمثل الخبرة التي اكتسبها يهود الدياسبورا في ظروف العزلة والاضطهاد وذلك لأن حرب الكيبور، والموقف السياسي العالمي المؤيد للعرب والذي تبلور بعد هذه الحرب سوف يحيى الصورة القديمة لليهودي كعاجز معزول، لا يستطيع الاعتماد على نفسه بل على معونة الآخرين .. لذلك فإنه لمن الضروري تماماً تقوية وتدعيم وتشجيع الروابط السيكلوجيه بين الإسرائيليين الجدد وأسلافهم، وكذلك بينهم بين يهود الأقطار الأخرى"

ويمضى لازاروس في تقديم المزيد من النصائح قائلا : “لقد كان المطلوب أولاً في فترة ما بعد حرب يوم الكيبور هو التفكير والتخطيط بعيد المدى، وطرح أفكار جديدة قائمة على إعادة التقييم الواعي للموقف. ولست أعنى بذلك إنه لم يكن هناك تخطيط فيما قبل حرب الكيبور، ولكن ما اعنيه هو أن التخطيط كان مرتكزاً على مسلمات وتقييمات خاطئة .. ويبدو من الضروري حاليا توفير الجهد الأكبر لمراجعة المشكلة ككل. وإعداد الترتيبات لنضال طويل المدى مع العالم العربي والبحث عن طريقة جديدة للتصدي لما يفرضه العداء العربي من تهديد مستمر.

لقد كشف هذا الخطاب الذي ألقاه ريتشارد لازاروس عن عدة آثار هامة خلفتها حرب أكتوبر على السيكلوجيه الإسرائيلية. لقد تزايد الإحساس بالخطر وتزايد الشعور بالعزلة وانهارت لدى الإسرائيليين مسلمات عديدة تتعلق بقدرة إسرائيل العسكرية المطلقة .. وكفاءة قيادتها وتفوقها على العرب. وتقدم لازاروس عالم النفس الاجتماعي ناصحا الإسرائيليين بمزيد من شحذ عدوانيتهم، بل وصهيونيتهم أيضاً . ولقد أخذ الإسرائيليون بنصيحته، وما زالوا.

أما فكتور صنوع، وهو عالم نفس يهودي أمريكي صريح في صهيونيته وفى عدائه للعرب، فقد نشر في الفترة من ديسمبر 1973 حتى أغسطس 1974سلسلة من المقالات في إحدى المجلات العلمية المتخصصة في علم النفس تحت عنوان “الآثار النفسية لحرب يوم الكيبور “.

أورد  صنوع في مقالاته هذه أن نسبة المصابين بصدمة نفسية من بين المصابين الإسرائيليين في حرب أكتوبر قد تراوحت بين 5% إلى 10% وهى نسبة عالية تماما، حيث أن عدد مثل هؤلاء المصابين في الحروب السابقة لم يكن ليذكر ويرجع صنوع ارتفاع هذه النسبة إلى “المفاجأة العربية للجيش الإسرائيلي في يوم الكيبور أقدس الأعياد اليهودية.

ويشير صنوع إلى أنه “قد ظهرت خلال حرب يوم الكيبور العديد من مظاهر الاعتماد على التفكير السحري أوالخرافى لدى أولئك الذين قتل أو فقد أبناؤهم أو أزواجهن. لقد استأجرت بعض الأسر الثكلى الوسطاء الروحانيين لمعرفة ما إذا كان أحباؤهم المفقودون مازالوا أحياء.. كما اشترك بعض الأرامل والآباء الثكلى تحت وطأة يأسهم في جلسات تحضير الأرواح للاتصال بالموتى. وقد لوحظ انتشار هذا السلوك حتى بين جماعات الشباب المثقفين اللامعين”.

كان ذلك هو الاتجاه الغالب علي رؤية الإسرائيليون لحرب أكتوبر. الجميع يسلمون بأنها هزيمة ثم قد تتباين آراؤهم في تحديد مسبباتها و تقدير حجم نتائجها و وسائل مواجهتها.

كيف رأينا نحن الانتصار : شهادة شخصية

لندع الرؤية الإسرائيلية جانبا بشكل مؤقت، و لننظر إلي أنفسنا. لقد كنت شخصيا شاهدا علي ما جري باعتباري متخصصا في علم النفس و أيضا باعتباري مصريا عربيا مهموما بما يجري للوطن.

منذ هزيمة 1967 و حتى الآن لم تنقطع علاقتي بمجريات صراعنا مع إسرائيل. مازلت أذكر بكثير من الخجل كيف لم تحتل إسرائيل مركزا بارزا في اهتماماتي قبل ذلك التاريخ؟ كيف لم أتمكن من رؤية الحجم الحقيقي للخطر؟ و أتذكر أيضا بنفس الخجل مدي تفاؤلي بمجريات مواجهتنا مع إسرائيل في الأيام الأولي لحرب 1967, و أذكر كذلك كيف تلاشي ذلك التفاؤل الساذج مع بداية نذر الهزيمة، وكيف تحول الخجل إلي إحساس ثقيل بالتقصير في الفهم وفي الفعل علي حد سواء. و بدأ تساؤل مؤلم يلح علي كما ألح علي غالبية أبناء جيلي: لماذا لم نفهم؟ لماذا لم نتوقع ما حدث؟ والأهم من ذلك و ماذا بعد؟

ومضيت أتابع ما يجري علي ساحة الصراع من وقائع حرب الاستنزاف إلي أيام الانتصار في أكتوبر 1973 إلي أن ألقي الرئيس السادات خطابه الشهير الذي أعلن فيه استعداده لزيارة القدس، ثم ما لبث أن تحدد موعد للزيارة. كنت آنذاك أشغل وظيفة مستشار منظمة الأمم المتحدة للأطفال (اليونيسيف) في دولة البحرين.

ولم أستطع البقاء بعيدًا فقبلت دعوة كريمة من الأصدقاء في مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت لمناقشة احتمالات قيام الرئيس السادات بزيارة القدس. وتصادف أن وصلت إلي بيروت صباح يوم زيارة الرئيس السادات للقدس، السبت الموافق 19/11/1977, و شهدنا علي شاشات التلفزيون في مركز التخطيط، نزول الرئيس السادات في مطار بن جوريون في إسرائيل. ثم تحولنا إلي التلفزيونات العربية نتابع المظاهرات التي تدين الزيارة, و أصوات المعلقين الإعلاميين يطلقون عليها ما شاءوا من صفات مثل "الصاخبة" و "الهادرة" و "الجماهيرية" و "الغاضبة" ... إلي آخره.

وكان إلي جواري صديق العمر رءوف نظمي الذي عرف باسمه الحركي في الثورة الفلسطينية "محجوب عمر"، و هو من المصريين الذين وهبوا حياتهم للثورة الفلسطينية. ووجدتني أتساءل "تري كيف نصنف هذه المظاهرات وفقًا للتصنيف الشائع؟ أهي مظاهرات كادر محترف منظم أم مظاهرات جماهير تلقائية مندفعة" وكان الأمر غني عن البيان فأمامنا مظاهرات تسير في الشوارع، وعلي الأرصفة يقف علي الجانبين الجمهور. وتذكرت علي الفور تلك المظاهرات التي شهدتها مصر يوم وفاة عبد الناصر حيث لم يكن هناك متظاهرون، وواقفون علي الأرصفة. لقد توقعنا رد فعل أعنف من ذلك بكثير.

عدت إلي البحرين أبحث عن تفسير لما جري ويجري من أحداث، محاولا أن أتابع كغيري ما ينشر عن التحركات الرسمية للمسئولين و كتابات المثقفين المتخصصين, و أتابع في نفس الوقت من موقعي كمتخصص في علم النفس ردود فعل الناس في الشارع العربي.  وتتابعت الأحداث إلي أن تم توقيع معاهدة كامب دافيد في 26 مارس 1979. كنت خلال ذلك الوقت أعيد حساباتي لما جري، مركزا علي المستقبل. وبدأت آنذاك بلورة رؤيتي ومناقشتها في خطاباتي المتبادلة مع عدد من الأصدقاء المهتمين بالموضوع، و انتهيت من صياغتها في أكتوبر 1982، أي بعد شهور من انسحاب إسرائيل من سيناء. واخترت لها عنوانا يلخص مضمونها و هو "السلام الهجومي".

أشرت في تلك الورقة القديمة إلي أن توقيع معاهدة كامب دافيد لا يمكن بحال أن يكون نهاية للصراع, بل إنه بداية لمرحلة جديدة من مراحل ذلك الصراع. بداية تختلف اختلافا جوهرياً عن مراحل الصراع السابقة. ويتمثل هذا الاختلاف الجوهري في بروز إمكانية جديدة لاكتساب الصراع طابعاً جماهيرياً حوارياً، بعد أن كان قاصراً أو يكاد على الطابع السلطوي النخبوي العسكري. أي أن التوقيع على معاهدة كامب دافيد لم يكن قراراً بإغلاق ملف قضية الصراع العربي الإسرائيلي و لم يكن حكما نهائيا فيها بل كان قراراً بإحالة القضية برمتها إلى الجماهير. الأهم من كل ذلك بالنسبة للمستقبل هو تأثير ما جرى على الجماهير العربية ودورها في الصراع, و هو دور تميز عبر تاريخ الصراع بغلبة الطابع السلطوي العسكري على الطابع الجماهيري الحواري.

كان ذلك هو الأمل آنذاك, و حين أنظر إليه اليوم, ينتابني شعور غريب متناقض. ما زلت مقتنعا بأساسيات ذلك الأمل, أمل السلام الهجومي, بل و بإمكانية تحقيقه, و في نفس الوقت فإنني أدرك أن ذلك الأمل محاصر عربيا و إسرائيليا, و أن ثقافة الهزيمة تكاد تلتهم انتصارات أكتوبر.لقد حققنا انتصارا عسكريا في أكتوبر 1973, و لكن هل انتهت بذلك الانتصار ثقافة الهزيمة, أعني هزيمة 1967؟.

تفيض دراسات علم النفس الاجتماعي و علم النفس السياسي علي السواء بالعديد من الدراسات عن "المنتصر", و "المهزوم" و لعل أهم ما يعنينا من نتائج تلك الدراسات نتيجة مؤداها أن المنتصر يحرص علي مواجهة المهزوم و تذكيره بهزيمته و تذكير نفسه بانتصاره عليه, في حين أن "المهزوم", كما نقولها في لغتنا اليومية "لا يستطيع أن يرفع عينه في وجه المنتصر". و إذا كان أهل الاختصاص في الأمور العسكرية يحسبون الهزيمة و النصر بمؤشراتها المادية و نتائجها الملموسة علي الأرض, فإن علماء النفس يتحدثون عن الوعي بالهزيمة مقابل الوعي بالانتصار, واضعين في اعتبارهم و من واقع تخصصهم أيضا تأثيرات عمليات تزييف الوعي التي قد ترسخ لدي المهزوم وعيا مصنوعا أو زائفا بالانتصار, كما أنها قد ترسخ لدي المنتصر وعيا زائفا بالهزيمة.

تذكرت ذلك  حين نشرت صحيفة المصري اليوم في عددها الصادر في 2 أكتوبر 2004 مقابلة مع واحد من أبطال حرب أكتوبر هو "النقيب يسري عمارة" الذي يؤكد أن "أعظم أيام حياته كان يوم الاثنين الموافق الثامن من أكتوبر العظيم" تاريخ تمكنه مع زملائه من أسر العقيد عساف ياجوري قائد اللواء المدرع 101 بالجيش الإسرائيلي. و يمضي ضابطنا المنتصر يعد عرض رائع لتفاصيل خبرته المعاشة ليقول أنه فوجئ أيام احتفال مصر بمرور ربع قرن علي هذا النصر المبين برئيس جامعة القاهرة يدعوه لمقابلته و لم يتمكن من الحضور في الموعد ثم علم أن عساف ياجوري أسيره السابق كان يريد مقابلته. و يعلق ضابطنا المنتصر قائلا: "حمدت الله تعالي أني لم أره, لأنني أكره مقابلته, لكراهيتي لإسرائيل فبعد المعاناة في 1967, و الدماء التي سالت ليتحقق النصر, ما كان لي أن أقابل عدوي مهما ادعي السلام و ادعي أنه جار, لأن العدو لا يزال عدوا... إنني لا أوافق علي التطبيع الذي يريدونه".

من الطبيعي أن يتبادل المنتصر و المهزوم الكراهية, و من الطبيعي أن تدفع تلك الكراهية كلاهما إلي الحذر من الآخر, و لكن في النهاية يبقي المنتصر منتصرا و المهزوم مهزوما, و تبقي الحقيقة العلمية التي تقول إن خبرة اللقاء المباشر تكون أليمة للمهزوم و لا تكون كذلك بالنسبة للمنتصر. تري لماذا إذن رفض ضابطنا المنتصر لقاء أسيره السابق؟

إن ضابطنا المنتصر موقن دون شك و من واقع خبرته الشخصية المباشرة أنه منتصر, و لكن هل تراه علي نفس الدرجة من اليقين أننا انتصرنا. الفارق كبير بين الحالتين. لقد مارس البطل يسري عمارة خبرة انتصار فعلي. مارسها بيديه, و رأي بعينيه عساف ياجوري يستسلم للأسر. و لكن السؤال هو هل أدت هذه الخبرة الشخصية الحقيقية العظيمة إلي انتهاء ثقافة الهزيمة و سيادة ثقافة الانتصار؟

لماذا لم يسع بطلنا لمواجهه عساف ياجوري أسيره السابق ليقول له مثلا "كيف تدعون السلام و تصنعون ما تصنعون في فلسطين؟ مني تستوعبون درس أكتوبر؟ مني تعرفون أن القوة مهما بلغت لا يمكن في النهاية إلا أن تنكسر أمام مقاومة أصحاب الحق؟".

لقد نجحنا في التقليل من حجم انتصارنا, بل و شكك بعضنا في قيمته, وكان طبيعيا أن يسعد المهزومون بمن يقدم لهم ثقافة الانتصار علي طبق من فضة لنتبادل الأدوار: ليتخلص الإسرائيليون من ثقافة الهزيمة و هم أصحاب لجنة أجرونات التي اعترفت بهزيمتهم في حرب يوم الغفران و أصدرت تقريرها المشهور عن التقصير, و لنتمسك نحن أصحاب انتصار أكتوبر بثقافة الهزيمة.

و لكن كيف تمت عملية تبادل الأدوار المصطنعة هذه؟ لقد بدأت نذرها عشية انتهاء الحرب و بداية مفاوضات التسوية؛ و بدأ تبادل الهمسات بين النخبة بأننا حيال "حرب تحريك" و ليست "حرب تحرير" و تحولت الهمسات إلي صراخ مع زيارة السادات لإسرائيل و انزوت الأضواء عن انتصار أكتوبر لتتجه إلي إدانة نتيجتها المتمثلة في "التطبيع مع العدو الإسرائيلي"، و ابتلعنا طعم "الدعوة للتطبيع" الذي روجت له أجهزة الدعاية الإسرائيلية, و رفعنا في مقابله "شعار المقاطعة", و تحول الحذر الواجب من ممارسات إسرائيل إلي ممارسة عملية لثقافة الهزيمة، حتى أنه حين اعترف الضابط الإسرائيلي بيرو بأنه قد أقدم و زملائه علي دفن الجنود المصريين الأسري أحياء في حرب 1967 تحرجنا أن نقيم معه اتصالا مباشرا يدعم سعينا لإدانة ممارسات إسرائيل دوليا, و حين يأتينا بعض رموز عرب 48 تتم مقابلتهم في حدود ضيقة و علي حذر و خجل متبادل من الطرفين: حرج من جانبنا لأنهم في النهاية يحملون جوازات سفر إسرائيلية, و حرج من جانب بعضهم أيضا لأننا وقعنا معاهدة كامب دافيد التي تعترف بإسرائيل.

إن الصراع الحضاري مع إسرائيل سوف يستمر حتى بعد إنهاء احتلال الأرض الفلسطينية و السورية. إنه صراع الجيران جغرافيا، المختلفون حضاريا و سكانيا. صراع أصحاب التاريخ الطويل الدامي. و الطرف الذي لا يمارس دورًا فعالا في مثل هذا الصراع، يغامر بفقدان مستقبله المستقل، بل أن الاستمرار غير المتوازن لذلك الصراع الحضاري يحمل في طياته نذر العنف وتجدد الحرب.

و لذلك فكثيرا ما يشوب ذكري توقيع معاهدة السلام بين مصر و إسرائيل قدر كبير من محاولة التناسي, بل و الإحساس بما يشبه الخجل؛ كما لو كنا نحاول التبرؤ من ذلك السلام و معاهدته.

إن الانتصار العسكري الحاسم يعني حلول السلام باستسلام العدو استسلاما غير مشروط، دون مفاوضات و لا مناورات و لا حتى تدخل من المهزوم في صياغة وثيقة الاستسلام. هكذا كانت انتصار الحلفاء علي دول المحور و استسلام ألمانيا و اليابان، لقد وقع الإمبراطور الياباني وثيقة استسلام اليابان أمام الجنرال الأمريكي ماك ارثر في 2 سبتمبر 1945 بعد  18 يوما من إعلان الهزيمة، كما أن ممثلو القيادة العليا الألمانية قد وقعوا وثيقة الاستسلام في 15 مايو 1945 بعد 13 يوما من سقوط برلين. و لكن الأمر يختلف فيما يتعلق بحل الصراع بالوسائل السلمية، الذي يستغرق وقتا أطول و لا تكون نتائجه علي نفس الدرجة من التمييز القاطع بين الطرف المنتصر و الطرف المهزوم.

لقد تحقق تحرير سيناء في خطوات متتالية استغرقت سنوات طوال، بدأت بعبور قواتنا المسلحة و تحطيم خط بارليف في 6 أكتوبر 1973، و تم رفع العلم المصري علي سيناء في 25 إبريل 1982، تنفيذا لمعاهدة السلام بين مصر و إسرائيل التي تم توقيعها بعد مفاوضات تفصيلية معقدة في 26 مارس 1979، ثم ارتفع العلم المصري علي طابا في 19 مارس 1989 بعد عملية التحكيم، لتتحرر سيناء كاملة بعد ستة عشر عاما من انتصار أكتوبر 1973. إن توقيع وثائق الاستسلام التاريخية يتم –كما أشرنا- عشية الانتصار بعد سحق إرادة و قدرات العدو دون حاجة لمفاوضات و أخذ و رد يستغرق مثل تلك السنوات الطوال، و لكن الأمر يختلف تماما في حالات الحل السلمي للصراع، و هو الطريق الذي اختارته مصر بعد حرب أكتوبر.

إن إبرام معاهدة بين طرفين بعد مفاوضات طويلة إنما يعني أن كل طرف قد وجد في توقيعه علي المعاهدة فائدة ما، بعبارة أخري أكثر وضوحا فإن توقيع مصر و إسرائيل علي المعاهدة إنما يعني أن لإسرائيل مصلحة في التوقيع كما أن لمصر مصلحة كذلك. و هذا هو الفارق بين نتائج حل الصراع بالطرق السلمية، و حله عن طريق الحسم العسكري. في الحالة الأخيرة يختص الطرف المنتصر بكل المكاسب، أما في الحالة الأولي فإن الهدف يكون بلوغ الطرفين نقطة وسطية تحقق أكبر قدر من المكاسب لكليهما، و لكنها لا تمثل التحقيق الكامل للحد الأقصى لما يريده طرف علي حساب الطرف الآخر.

لقد استعادت مصر أرضها كاملة غير منقوصة، و  لم ينقطع حديثنا عن ضرورة تعمير سيناء، و تنشيط السياحة في سيناء، و توقعات زيادة إنتاج البترول من آبار سيناء، فضلا عن أننا كمدنيين أصبح في مقدورنا -ربما للمرة الأولي في تاريخنا الحديث- الذهاب إلي مدن في سيناء لم تطأها سوي أقدام جنودنا و ضباطنا فيما بين فترات الاحتلال الإسرائيلي. لقد بدأت "شرم الشيخ" و "دهب" و "نويبع" و "العريش" و "سانت كاترين" و "طابا" تتسلل رويدا رويدا إلي حوارات المصريين و وعيهم باعتبارها  مدنا مصرية و ليست مجرد مناطق عسكرية حدودية.

و من هنا ببدو ذلك الخجل من معاهدة السلام ملفتا للنظر، في حاجة إلي تفسير: تري هل يرجع الأمر إلي مخاض الهويات الذي تمر به بلادنا و الذي تتفاعل فيه ثلاث هويات متداخلة: هوية عربية تري في إسرائيل كيانا غريبا زرعه الغرب لتفتيت الأمة العربية و أن اتفاقية السلام قد أدت إلي خروج مصر عن الصف العربي و  إلي ما ترتب علي ذلك من تبدد القوة العربية، و هوية إسلامية تري  الصراع العربي الإسرائيلي صراع وجود لا صراع حدود فإما أن نوجد نحن أو توجد إسرائيل، و هوية مصرية تري لاحتفاظ مصر بحدودها الدولية أهمية تعلو أي أهمية أخري؟  تري هل يرجع الأمر إلي ما تمارسه إسرائيل من عنف وحشي حيال الفلسطينيين، و أن معاهدة السلام قد أطلقت يد إسرائيل في هذا الاتجاه و فرضت علينا في نفس الوقت صداقتها و التطبيع معها؟

علي أي حال فإن الرؤية المصرية العربية لما جري تظل في مجملها كما أوردنا و لكن هل تغيرت الرؤية الإسرائيلية عبر أربعون عاما مضت علي حرب الكيبور؟

الصورة الإسرائيلية لحرب أكتوبر عبر أربعون عاما:

جرح حرب أكتوبر ما زال غائرا في التركيبة البشرية الإسرائيلية. يستعيدون الذكري كل عام. و رغم مرور أربعون عاما، ما زال السؤال الاستنكاري هو: هل هزمنا حقا؟ هل هزمنا بما لدينا من قنابل ذرية و استخبارات لا تجاري و تحالفات مع أقوي دولة في العالم؟ كيف حدث ذلك؟ و يظل الهاجس المؤرق يتردد: هل يمكن أن نفاجأ مرة أخري؟.

و رغم الاعتراف العام بحقيقة الهزيمة الإسرائيلية؛ إلا أن بعض الكتاب الإسرائيليين لم يحتملوا ألم الاعتراف الصريح بتفوق الأداء العسكري المصري، فاتخذوا سبلا ثلاث للالتفاف علي تلك الحقيقة. البعض أنكرها تماما مرددا  أن ذلك اليوم كان يوم انتصار ساحق لإسرائيل لكن الإسرائيليين لم يدركوا أنهم انتصروا و أن النصر كان حليفهم، و البعض أرجع ما حدث إلي تواطؤ أمريكي إسرائيلي، و البعض أرجعه إلي مهارة مخابراتية مصرية غير مسبوقة.

لم يكن ثمة انتصار مصري:

طرح يسرائيل هاريل رؤية مركبة لما حدث، إذ كتب في جريدة الهاآرتس منذ عام  بتاريخ 11 أكتوبر 2012 مقالا يحمل عنوانا ملفتا: "علي إسرائيل أن تفيق من صدمة ما بعد يوم الكيبور: بينما يحتفل المصريون بنصر أكتوبر ينظر الإسرائيليون إليه باعتباره هزيمة، و كلاهما مخطئ في تقييمه"

و قبل أن نمضي في قراءة المقال ينبغي التعرف علي الكاتب. يسرائيل هاريل يحمل الجنسيتين الكندية و الإسرائيلية، و قد أدي الخدمة العسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلي من 1979 إلي 1981 ثم استدعي كضابط احتياط ليشارك في حرب لبنان عام 1982، و يكتب بانتظام في جريدة الهاآرتس كل خميس منذ عام 1991. و هو ليس مجرد صحفي لامع بل هو مؤسس مركز الصهيونية الدينية في مؤسسة شالوم هارتمان و هو كذلك مؤسس مجلس الجماعات اليهودية في الضفة الغربية الفلسطينية و غزة، و فضلا عن ذلك فقد كان هاريل من مؤسسي حركة جوش آمونيم Gush Emunim و تعني "كتلة المؤمنين" التي تأسست في فبراير عام 1974 إثر حرب الكيبور داعية إلي تكثيف المستوطنات في الضفة و القطاع و الجولان. طرح الكاتب في مقاله رؤية تختلف عما استقرت عليه الروايتين الرسميتين العربية و الإسرائيلية و اللتان تتفقان علي توصيف حرب الكيبور باعتبارها هزيمة إسرائيلية.

يستهل الكاتب مقاله بالإشارة إلي أنه خلال مشاركته في مؤتمر عقد في عمان العاصمة الأردنية منذ عدة سنوات، جلس عدد قليل من الإسرائيليين و المصريين يتحادثون، و سئل أحد الإسرائيليين عن آخر مرة زار فيها مصر، فأجاب ساخرا " في السادس عشر من أكتوبر 1973، و بدون جواز سفر، حيث عبرت قناة السويس مع وحدتي العسكرية إلي أن انسحبنا بعد عدة شهور، و لكنا الآن قد تحقق لنا السلام. إنني لا أقصد إهانةة أحد" و حدث قدر من الاضطراب العابر، و قال بعض المصريين أن ذلك لم يحدث مطلقا، غير أن جنرالا مصريا متقاعد وجه حديثه إلي زملائه المصريين مؤكدا أنه "من الناحية الفنية لم يبتعد الإسرائيلي عن الحقيقة، فقد استدرجناهم عبر القناة إلي فخ خططناه لإبادتهم"؛ ثم التفت إلي الإسرائيلي مستمرا في الحديث متسائلا "إذا كنتم قد انتصرتم ، فلماذا انسحبتم من الضفة الغربية للقناة ثم من كامل سيناء وفقا لشروطنا؟"

إنه ذلك التساؤل المحير الذي لم يعرف له هاريل جوابا شافيا. و لعل الغموض الذي يحيط بذلك السؤال يرجع إلي حقيقة أن الانتصار في حرب يوم الكيبور انتصارا تقليديا بأي حال و بصرف النظر عن هوية الطرف المنتصر؛ بل كان انتصارا له مذاق خاص. إن الانتصار العسكري الحاسم يعني حلول السلام بعد استسلام العدو استسلاما غير مشروط، دون مفاوضات و لا مناورات و لا حتى تدخل من المهزوم في صياغة وثيقة الاستسلام. الاستسلام غير المشروط هو عملية استسلام تمنع المستسلم من وضع أيّة شروط مقابل استسلامه كما لا تشترط على المُستسلم إليه منحه أية ضمانات، وإن اشتمل الاستسلام غير المشروط بعض الضمانات للمُستسلم في نصوص القانون الدولي الحديث، والمعروف أن الاستسلام غير المشروط دائما ما يضعف من همم الجانب المُستسلم والذي غالبا ما يقبل بالاستسلام بهذه الصورة بعد ضعف أو ربما استحالة قدرته على الانتصار في الحرب أو صد عدوان ما.

لقد كانت آخر الانتصارات التقليدية التي شهدتها البشرية قبيل حرب 1973 هي مشاهد انتصار الحلفاء علي دول المحور و استسلام ألمانيا و اليابان. لقد تم توقيع وثيقة استسلام اليابان غير المشروط بعد  18 يوما من إعلان الإمبراطور الياباني هيروهيتو استسلام بلاده في الحرب العالمية الثانية عبر خطاب مسجل بث في الإذاعة في ظهيرة يوم 15 أغسطس 1945 و وقعت الوثيقة رسميا في 2 سبتمبر عن طريق وزير الشؤون الخارجية الياباني مامورو شيجميتسو و الجنرال ريتشارد ك. ساذرلاند في 2 سبتمبر 1945، و في ذات اليوم قام الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتعيين الجنرال دوغلاس ماكارثر كقائد أعلى لقوات التحالف للإشراف على احتلال اليابان.

و ما زالت ذاكرة المهتمين برصد التفاصيل تعي صورة نشرتها الصحف لالتقاء ماكارثر مع الإمبراطور هيروهيتو في 27 سبتمبر و التي تعتبر من أهم الصور في التاريخ الياباني. كان الجنرال ماكارثر يقف أمام الإمبراطور مسترخيا بلباسه العسكري دون ربطة عنق واضعا يديه خاف ظهره، و يعتقد أن الجنرال قد تعمد الظهور بذلك المظهر لإرسال رسالة للإمبراطور بأن دولته أصبحت تحت الاحتلال. ومع نهاية 1945 كان قد دخل إلى اليابان أكثر من 350000 جندي أمريكي.

و لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لمشاهد استسلام ألمانيا حيث وقع الجنرال ألفرد يودل ممثل القيادة العليا الألمانية على استسلام ألمانيا غير المشروط في ريمس عام في 7 مايو 1945 بعد 13 يوما من سقوط برلين ، وكان وقتها رئيسًا لهيئة عمليات القيادة العليا للقوات المسلحة الألمانية ، و قد حوكم بعد ذلك في محكمة نورنبيرغ وأدين باتهامه بارتكاب جرائم حرب ثُم أُعدم. أعلنت براءته غيابيا سنة 1953 بعد إعدامه.

كانت تلك هي مشاهد الاستسلام التي كانت عالقة بالذاكرة آنذاك، و هو ما لم تشهده نهاية حرب أكتوبر بل و لا نهاية أي مرحلة من مراحل المواجهات العربية مع إسرائيل فرغم وقوع هزائم إلا أنه لم يحدث استسلام معلن غير مشروط من جانب أي طرف من أطراف الصراع منذ بدايته و حثي الآن.

و لنعد إلي مقال هاريل لنجده يقول "لقد احتفلت مصر الأسبوع الماضي احتفالا بهيجا بما اعتادت أن تطلق عليه منذ 39 عاما "انتصار أكتوبر"؛ و قام رئيس الجمهورية محمد مرسي بتقديم الميداليات للضباط الذين قاتلوا في الحرب وسط صيحات الجماهير المبتهجة، و علي النقيض من ذلك كان الإعلام الإسرائيلي كعادته طوال 39 عاما يحيي ذكري انتصار جيش الدفاع الإسرائيلي بالاستمرار في معزوفة الحداد والبحث عن الإخفاقات ليضرب الصدور ندما علي ما ارتكبتاه من خطايا و ما لم نرتكبه أيضا"

و يمضي هاريل مؤكدا أنه سبق له أن أعلن منذ سنوات أن تلك الاحتفالات بالانتصار تعد نموذجا بارزا لجانب أساسي في مصر و هو الحياة في عالم خيالي يجعلهم يتخيلون الانتصار و من ناحية أخري فقد "أعلنت أن حرب يوم الكيبور كانت أعظم انتصار حققه الجيش اليهودي علي الإطلاق، و من ثم فإن أولئك الإسرائيليين الذين يحولون تصويره كما لو كان هزيمة؛ إنما يعيشون في عالم خيالي شأنهم شأن المصريين و يتصرفون كما لو كانوا يعانون من صدمة الحرب.

رغم أن تلك الحرب قد انتهت و جيش الدفاع علي مبعدة 101 كيلومتر يواجه عاصمة مصر مفتوحة أمامه بينما آلاف المصريين يستسلمون دون قتال"
"إننا نعاني من ذات الأعراض التي أصابت جواسيس العهد القديم biblical spies  " فكنا في أعين أنفسنا كالجراد و هكذا كنا في أعينهم" و يخلص هاريل إلي أنه طالما أن ما يعول عليه هو الحالة العقلية، فقد كسب المصريون الحرب بكل تأكيد. إننا في الحقيقة لم نحصد ثمار النصر، و لم نملي شروطنا علي المصريين –و كنا نقف علي أبواب القاهرة- بل إننا حتى لم نحتفظ بالمستوطنات في شمال سيناء. بدلا من ذلك فقد كنا تحت تأثير صدمة الحرب أشبه بمن قال عنهم التوراة في نهاية روايته عن جواسيس العهد القديم "سوف يسقطون دون أن يدفعهم أحد"

"و من الجانب المقابل، فإن أولئك الذين احتفظوا بتوازنهم النفسي رغم الكارثة التي أصابتهم، تمكنوا من تحقيق أهدافهم الإستراتيجية. و لعلنا سوف نشهد في العام القادم بمناسبة الذكري الأربعون معسكر الجراد و قد ازداد قوة و سوف تصدر الصحف كعادتها ملاحق حزينة تردد نغمة جلد الذات و تحويل النصر إلي هزيمة."

و في نفس السياق و بنفس الرؤية تقريبا و بعد عام كامل يكتب زفي هاريل Zvi Bar'el  مؤخرا في جريدة الهاآرتس بتاريخ 13 سبتمبر 2013 مقالا بعنوان "حرب يوم الكيبور: مأساة في عيون الإسرائيليين و انتصار في  عيون المصريين" . يستهل هاريل مقاله بالتقاط مشهد قد نمر عليه دون أن ندرك دلالته التي تلتقطها العين الإسرائيلية. شركة مصرية تعلن في الصحف عن فرصة لتملك شقة في "مدينة العبور أمام بانوراما أكتوبر" و يشرح داريل للقارئ الإسرائيلي معني كلمة العبور و كيف أنها تشير إلي عبور الجنود المصريين للقناة في بداية الحرب و يشير إلي ما بانوراما أكتوبر باعتبارها مزار سنوي لآلاف الطلاب المصريين يضم نماذج متحركة لمشاهد الحرب .

يقول داريل أنه لا يوجد شارع في إسرائيل يحمل اسم تلك الحرب؛ في حين أن كلمة "أكتوبر" لم تعد تشير لدي المصريين إلي مجرد شهر من شهور السنة. لقد أصبحت اسما لكوبري و لمدرسة و لحي و لمجلة أسبوعية و لنادي رياضي و لمطعم. "لقد أصبحت في عيون المصريين رمزا لعظمة الجيش المصري كما أصبحت مقياسا لانتصارات المصريين. لقد قارن بعض الكتاب المصريون انتصار أكتوبر بالإطاحة بمبارك، و صرح ضاحي خلفان المسئول الأمني الإماراتي بأن حرب الجيش ضد الإرهابيين في سيناء تشبه حرب أكتوبر، و صرحت الناشطة السيناوية مني برهوم بأن المواجهات العسكرية في سيناء هي الأعنف منذ حرب أكتوبر، بل إنه عندما ألغت الولايات المتحدة مؤخرا مناورات النجم الساطع المشتركة مع الجيش المصري صرح المعلق العسكري الجنرال المتقاعد مختار قنديل بأن مصر قد انتصرت في حرب أكتوبر دون النجم الساطع"

بل أن مكتبة الإسكندرية بتجميع ذكريات أكتوبر ضمن مشروع أطلقت عليه أيسم ذاكرة مصر و في صفحتها علي الإنترنت العديد من الخرائط و الصور و الوثائق التي يضاف إليها سنويا ما يتم التوصل إليه من وثائق نادرة، فقد أضيف هذا العام مثلا 146 صورة للجنرال سعيد الماحي قائد مدفعية أكتوبر، و تتصدر المجموعة بطبيعة الحال صورة أنور السادات بطل الحرب و السلام كما كان يطلق عليه الإعلام الحكومي بعد توقيع كامب دافيد.

و يشير المقال في خاتمته إلي أن "الجنرال السيسي لم يشارك في حرب أكتوبر حيث أكمل دراسته بعد مرور 4 سنوات علي انتهاء الحرب و بالتالي فذكرياته عن الحرب مكتسبة غير مباشرة، و لعله لو قرأ كتاب سعد الدين الشاذلي عن ذكريات حرب أكتوبر فإنه سوف يدرك أن العراك بين الجنرالات أثناء الحرب حرم مصر من تحقيق نصر أكبر، و لكن ذلك العراك لا يعرف سبيله للتوثيق في مزار تاريخي مثل بانوراما أكتوبر".

مؤامرة دايان بريزنسكي:

يكاد باري شاميش Barry Chamish –رغم أنه من معارضي السياسات الحكومية الإسرائيلية- أن يكون نموذجا متفردا في هذا الصدد إذ أرجع الأمر لمؤامرة أبرمها هنري كيسنجر مع موشيه دايان للسماح للعرب بانتصار بسيط يدفع بهم إلي مائدة التفاوض.

نشر باري شاميش في الثاني عشر من إبريل 2012 بموقعه علي الشبكة العنكبوتية مقالا بعنوان "التليفزيون الحكومي الإسرائيلي يكشف أخيرا مؤامرة دايان كيسنجر" : في التاسعة من مساء الخميس السابع من إبريل 2011 عرضت القناة الأولي من التلفزيون الإسرائيلي المملوكة للحكومة فيلما تسجيليا من إخراج يورام إيرباماتز  Yoram Irbamatz بعنوان "من قتل أبي؟" استغرق ساعة و نصف تلاه حوار يثبت أن هنري كيسنجر و موشيه دايان قد قاما بما أطلق عليه الكاتب باري شاميش "طبخ حرب يوم الكيبور الكارثية بحيث يستطيع العرب كسب الحرب"

و يدور الفيلم حول واقعة اغتيال الضابط الإسرائيلي جون آلون الذي كان يعمل بسفارة إسرائيل بواشنطن مساعدا للملحق العسكري من أوائل 1970 إلي يوم اغتياله في الأول من يوليو  1973 أمام زوجته و طفلتيه. و قد قامت المباحث الفيدرالية الأمريكية و الموساد الإسرائيلي بإغلاق الملف بعد وقت قصير دون التعرف علي الجاني أو تبين دوافعه.

و يحاول الفيلم أن يقيم الدليل علي أن الاغتيال قد نفذته المباحث الفيدرالية الأمريكية بعد الحصول علي الضوء الأخضر من رئيس آلون المباشر السفير الإسرائيلي في واشنطن آنذاك إسحق رابين و ذلك لأن آلون كان يعرف خطة دايان – كيسنجر و أنهما لم يطمئنا لقدرة آلون علي إغلاق فمه و احتفاظه بالسر. كان السر هو ذلك الاتفاق أو "الطبخة" بين دايان و كيسنجر علي تمكين العرب من نصر محدود تضحي فيه إسرائيل بمائة أو مائتين من جنودها مقابل قبول العرب بمفاوضات سلام.

و يشير الكاتب إلي أن تلك "الطبخة" قد كلفت إسرائيل دماء أكثر من 2000 جندي إسرائيلي سقطوا في يومين و أن الخطة قد اكتملت بإجبار الرئيس كارتر مناحم بيجن علي تعيين دايان وزيرا للخارجية و الذي استغل موقعه الجديد للضغط علي بيجن لتوقيع معاهدة سلام مع مصر "يسترد بها السادات كل بوصة من أرض سيناء التي أصبحت اليوم مأوي لأنفاق حماس.". و يختتم شاميش مقاله بالإشارة إلي أن رابين الذي وافق علي قتل آلون من أجل السلام قد لقي مصرعه بعد ذلك من أجل السلام أيضا.

الخداع الاستراتيجي العسكري:

نشر المقدم شمعون مندس ، الذي خدم في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إبان حرب أكتوبر 1973، مقالين في ذكري الحرب في عامي 2012، 2013 علي التوالى.

في مقال نشره بموقع منتدى الشرق الأوسط في 29 أكتوبر 2012 بعنوان "الخديعة المصرية المحكمة التي سبقت حرب يوم الكيبور"  يقول فيه إن الرئيس السادات خلال حرب أكتوبر 1973 في تسويق ثلاث خدع إستراتيجية لإسرائيل.

وقال "شمعون": "من أجل فهم الخديعة العسكرية المصرية في حرب يوم الغفران "السادس من أكتوبر" 1973 من الأهمية بمكان معرفة بداية تلك الخديعة، حيث إنه في عام 1969 حدث انقلاب في الفكر العسكري المصري مقابل الجمود الفكري الذي سيطر على هيئة الأركان العامة الإسرائيلية.

بدأ ذلك الانقلاب بواقعتين كان لهما التأثير الأكبر علي مسار الأحداث. وقعت الأولي عام 1969 حين خطا الدكتور أشرف مروان لأول مرة داخل السفارة الإسرائيلية بلندن، و وقعت الثانية – كما يقول المشير عبد الغني الجمسى- بالقاهرة في أغسطس عام 1971 حين اجتمع الرئيس السادات في استراحته الصيفية بعدد قليل من الجنرالات القائمين علي التخطيط للحرب. و في بداية الاجتماع قال الرئيس السادات "إنني أحذركم من التفكير العسكري التقليدي، فالعدو يتوقع منا أن نتبع ذلك النمط من التفكير، و ينبغي أن يقوم انتصارنا علي مبدأ المباغتة"

و يشير مندس إلي أن البروفسور جون فارس Joan Farris خبير الخدع العسكرية قد صنف الخدع العسكرية الإستراتيجية إلي نوعين: التضليل mislead و التشويش confuse و يضيف مندس "لقد أضاف السادات نمطا ثالثا إلي تلك الخدع و هو التنويم sedation.، و زرع ذلك المفهوم في عقول النخبة العسكرية و المدنية الإسرائيلية. و إذا كان جوهر مهمة أجهزة المخابرات يتمثل في تضييق الفجوة بين الاستعدادات للحرب و اندلاعها بالفعل؛ فقد قام أشرف مروان بمهمة جسر تلك الفجوة. كيف حدث ذلك؟"

أشار مندس إلي مثل قديم شهير يقول إذا لم يأت الجبل إلى محمد؛ فليذهب محمد إلي الجبل و قد "قرر محمد أنور السادات تطبيق ذلك المثل بشكل عكسي، فبدلا من أن يسعي الموساد إلى خزائن الأسرار العسكرية المصرية، قام السادات بفتح تلك الخزائن للموساد و لكن بعد إفراغها من أثمن ما فيها. لقد قال تسفي زاميرا Zvi Zamir أنه يعتبر نفسه موجودا بالفعل في الرئاسة المصرية و في غرفة القيادة المعروفة بالمركز رقم 10 و قد كان مضيفه هناك الدكتور أشرف مروان". لقد كان ما أخفاه السادات من خزانة المخابرات المصرية –كما يري مندس- هو الهدف الحقيقي من الحرب. "لقد دس السادات العقار المخدر في خزانة الأسرار لكي يتم تنويم المخابرات الإسرائيلية ... و تمكن السادات بفضل خديعته الأولي من ضمان عبور قواته قناة السويس و هو علي ثقة من نوم الجيش الإسرائيلي"

و تمثلت الخديعة الثانية في إرسال أشرف مروان إلى لندن لمقابلة رئيس الموساد تسفي زامير ليقول له إن الحرب ستندلع غداً، و كان الهدف هو إغراء إسرائيل بشن ضربة طيران استباقي كان الجيش المصري مستعدا لها لتخسر إسرائيل أية مساندة دولية. و لكن جولدا مائير لم تستجب لذلك الإغراء لاعتبارات لم يفصح عنها مندس و من ثم فقد أخفقت خدعة السادات الثانية.

و كانت الخدعة الثالثة أن قام أشرف مروان بالاتصال تليفونيا من القاهرة بتسيفي زامير مدير المخابرات الإسرائيلية. و ينقل مندس تفاصيل ذلك عن مقابلة صحفية أجريت مع زامير و نشرتها صحيفة دافار بتاريخ 24-9-2011 قال فيها أنه تلقي مكالمة من أشرف مروان بالقاهرة في 12-10-1973 يحذره فيها من أن وحدة عسكرية مصرية توشك أن تخترق سيناء، و كان الهدف من المكالمة كما يري مندس ترسيخ مصداقية أشرف مروان لدي الإسرائيليين بهدف استخدامه في مرحلة السلام و هو ما حدث بالفعل حيث استمرت علاقة مروان بالمخابرات الإسرائيلية حتى عام 1978 و يقول دنس في ختام أن السادات كان يدير أشرف مروان شخصيا من خلال مكتب خاص برئاسة الجمهورية "و هو المكتب الذي قام بإعداد البسبوسة المسمومة التي قدمها لنا أشرف مروان و من بيننا من التهمها باستمتاع و ما زال مستمتعا بها حني اليوم"

تري كيف ستكون رؤيتنا و رؤيتهم في احتفالات أكتوبر في الأعوام القادمة؟
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)