آخر الأخبار
 - شهد النظام الإقليمي العربي بعد الثورات مرحلة غير مسبوقة، تضع مستقبل المنطقة على المحك. ثمة بعض مؤشرات التفكك والتجزئة.....

الاثنين, 11-مارس-2013 - 11:27:56
مركز الإعلام التقدمي -

شهد النظام الإقليمي العربي بعد الثورات مرحلة غير مسبوقة، تضع مستقبل المنطقة على المحك. ثمة بعض مؤشرات التفكك والتجزئة التي تشهدها العديد من دول الثورات، في ظل ظواهر داخلية جديدة أبرزت مشاهد العنف وعدم القدرة على تحقيق التوافق الداخلي، والعجز عن الإمساك باللحظة التاريخية التي أسفرت عن تغيير سياسي شامل، لكنها لم تظهر بعد تجلياتها في النواحي الاجتماعية والثقافية والفنية والقيم.
ومع مشاهد التجزئة والتفكك، يبرز العجز عن إدارة الدولة أو إعادة بناء الأمة، مع نخب جديدة أصبحت في مواقع السلطة، لكنها تفتقد للخبرة وتقاليد الممارسة، ولا تزال أشبه بعضو مزروع ما زال الجسد يرفضه أو يتشكك فيه، على نحو يجعلها تقع في أخطاء كثيرة، تدفع قطاعات من مواطنيها لفقدان الثقة بالثورة. ومع سقوط رهاب الردع وميراث القمع المنهجي والتاريخي للسلطة في دول الثورات، يبدو أن استعادة النظام السياسي والتماسك الاجتماعي، وتحقيق الانسجام بين القمة السياسية والقواعد الاجتماعية، ستكون مسائل صعبة وستأخذ بعض الوقت، في ظل عدم القدرة على الوصول إلى جوانب للتوافق السياسي، مع بوادر تدحرج وضعية القلق والاضطراب في القمة وبين النخب مختلفة المشارب إلى قواعد وأبنية اجتماعية وتقليدية ظلت مستقرة لسنين.
لقد شهدت بعض دول العالم العربي سابقا وضعية الانقسام والصراع السياسي الداخلي، وانهيار الدولة أو تجزئتها في أوقات مختلفة(لبنان/ الصومال/ العراق)، لكن فضلا عن كم الدول التي تتعرض الآن للثورات، فإن مشهد الاضطراب الحالي يقع في دول القلب العربي، وفي كل من: مصر وتونس واليمن وسورية وليبيا، وإلى حد ما الأردن والبحرين والكويت، وهو أمر يشير إلى احتمال أن تكون المنطقة مقبلة على تغييرات أوسع نطاقا.
وبشكل عام، تركت الموجة الثورية التي شهدتها دول عربية خلال العامين الماضيين بصماتها على النظام العربي بشكل كبير، فقد تعرض النظام الذي عهدته المنطقة على مدى الـ 60 عاما الماضية لاختلالات شديدة، لم تخلفها بعد علامات أو خيوط دالة على بداية تشكل لنظام عربي جديد، مع احتمال المرور بمرحلة طويلة من اللانظام. وعلى الرغم من التحولات الهائلة في تركيبة النظام العربي وتوافر إرهاصات تغير في توجهاته، إلا أنه حتى الآن لا يمكن القول بأنه قد تغير تماما؛ فهناك ملامح من القديم والجديد، والاستمرارية والتغيير لا تسمح بتأكيد الخروج التام عن النظام السابق، ولا تشير إلى استمراره بنفس الملامح؛ فلا تمثل الفترة الراهنة انقطاعا تاما عن السنوات الأخيرة في عمر النظام العربي، خصوصا السنوات العشر من 2001 - 2011، وكل التغيرات التي نشهدها الآن تجد جذورها في هذه السنوات. لذلك هناك قدر من الاستمرارية على الرغم من أن الثورات قد توحي وكأن التغيرات الراهنة هي تغيرات فجائية على أثر ثورات وقعت بشكل فجائي.
وإذا افترضنا استقرار موجة التحول الراهنة في أنظمة الثورات العربية واستمرار حكم الإسلاميين في دول الثورات لفترة مقبلة، يمكن أن نرصد أبرز ملامح التغيرات الواقعة والمحتملة بالنظام العربي فيما يلي:


 أولاً: إدارة خليجية للنظام العربي: أهم تغير في النظام الإقليمي العربي على أثر الثورات هو سقوط مفهوم "قيادة النظام" والدخول في حقبة من "الإدارة لوضع إقليمي"، وقد قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي كحل مؤقت لغياب قيادة النظام؛ فبشكل عام قضت الثورات على احتمال استنهاض مثلث القلب في قيادة النظام العربي(مصر والسعودية وسورية)، ولا يبدو أنه بالإمكان استرجاع أضلاع هذا المثلث في المستقبل المنظور. وعلى الرغم من أن هذا المثلث تعرض للتجميد فعليا قبل الثورات مع الخلاف المكتوم بين سورية ومصر والسعودية إلا أنه ظل هناك رهان مستمر على إمكان استعادة نشاطه يوما ما. وكان جديد النظام العربي بعد الثورات أنه على الفور استعاض عن ذلك بما يمكن تسميته "إدارة مؤقتة" لوضع إقليمي متغير وليس قيادة لنظام، تمثلت بالأساس في "الإدارة الخليجية" للإقليم (السعودية ومعها باقي دول مجلس التعاون) مع بقايا دور مصري وممهورة بخاتم الجامعة العربية.
لقد شكلت دول المجلس خلال عامي 2011 – 2012 النظام العربي الفرعي الوحيد الذي له قدرة على التحرك في دول الثورات، وله قدرة على طرح مواقف محددة إزاء الشؤون العربية في الساحات الإقليمية والدولية، والتدخل في مناطق الأزمات، وتوجيه الأطراف الداخلية في دول الثورة نحو أهداف محددة، تخدم أحيانا الحفاظ على الأمر الواقع، وفي أحيان أخرى تعزز وضعية الأطراف التي ترتضيها دول المجلس، وفي أحيان ثالثة تخدم وضعية ثورية، تراها دول المجلس -إلى حين- أنها أفضل بديل لها في دولة الثورة. هكذا كان موقف دول المجلس إزاء القيادات التي أسقطتها الثورات حين ساعدت على إزاحتها بهدوء (بن علي تونس، وعلي صالح اليمن) أو تجنب إزاحتها (مبارك مصر) أو عدم المبالاة إزاء تصفيتها (القذافي ليبيا والأسد سورية). في ليبيا دعمت دول المجلس القضاء على نظام القذافي ورعت قرارات التدخل العسكري الدولي داخل منظومة مجلس التعاون وفي جامعة الدول العربية التي بدت كإدارة ملحقة بمجلس التعاون الخليجي، وأمدت القوى الثورية بالسلاح والمال، وهكذا كان موقفها من ثورة اليمن في فنائها الخلفي، وهكذا جاء موقفها المحايد والمتابع عن كثب لثورة مصر، وموقفها المساند حتى النهاية لثورة سورية.
وتتأكد "الإدارة" الخليجية للنظام العربي في ظل حالة استثنائية مؤقتة، يتوقف استمرارها وديمومتها على مقدار استمرار وضعية القلق الراهنة بدول الثورات. وتؤكد المستجدات العربية أن الإدارة الخليجية للنظام العربي سوف تبقى لفترة، في ظل ما يتوقع من طول الأزمة في سورية، سواء انتهت بسقوط النظام، أو استمراره فترة أطول على نحو يطيل أمد الحرب والصراع الذي أصبح ذا معادلة صفرية لدول مجلس التعاون الخليجي وللنظام السوري على حد سواء، حيث أن بقاء نظام الأسد يعني عداء مستحكما لدول الخليج ومحور إيراني سوري جديد يناصب دول المجلس العداء. وعلى جانب آخر، فإن فرص استنهاض أي تشكيلة قيادية جديدة للنظام العربي على غرار السابقة تجمع بين مصر والسعودية غير محتملة قريبا في ظل مستجدات الحكم في مصر، وعلاقات الإخوان المسلمين المضطربة مع الخليج والسعودية والإمارات تحديدا. صحيح أن كلا الجانبين تربطه علاقات شعبية ومؤسسية خاصة على الطرف الآخر، لكن الصحيح أيضا أن التفكير في تغيير العلاقات النمطية والخروج عليها هو أمر قائم، وليس من المعروف ما إن كان يجري بهدف المساومة أو أنه يأتي ضمن رؤية لبناء أحلاف إقليمية جديدة، وذلك لن يكون قرارا سهلا بالنسبة لحكم االإخوان في مصر بالنظر إلى الانقسامات الداخلية بشأنه واهتزاز الثقة واليقين بالعلاقات مع إيران في الداخل ولدى الأجهزة والمؤسسات.
كان أبرز المستجدات في عامي 2012 و 2013 زيارات مسؤولين إيرانيين لمصر وزيارات مسؤولين مصريين لإيران، على رأسها زيارة الرئيس مرسي لإيران في أغسطس 2012 وزيارة وزير خارجية إيران لمصر في يناير 2013، والتي سبقتها تقارير مثيرة –لم تتأكد- عن زيارة قائد فيلق قدس التابع للحرس الثوري الإيراني (قاسم سليماني) إلى القاهرة، ثم أخيرا زيارة الرئيس الإيراني لمصر في فبراير 2013 لحضور مؤتمر القمة الإسلامية، وكان أبرز المستجدات الإعلان عقب الزيارة بأيام عن تأسيس مجلس للتعاون المصري ـ الايراني لدعم أوجه التعاون في مختلف المجالات ومن أبرزها الاقتصاد والسياحة، وتوضيح كل مجالات التعاون والاستثمارات وتبادل الخبرات بين البلدين لدعم الاقتصاد المصري، مع الإعلان عن اعتزام إنشاء مدينة متكاملة للمواد الغذائية‏، و‏500‏ مليون دولار لتطوير السكك الحديدية. ويؤكد ذلك أن هناك توترات قادمة في قلب القيادة التقليدية للنظام العربي من الصعب تصور ترميمها أو استعادتها من دون تغييرات داخلية وإقليمية كثيرة، فضلا عن ما يتوقع أن تضيفه سورية بوضعها الحالي من أعباء على القضية المركزية للنظام العربي لسنوات مقبلة بجوار قضية فلسطين. وفي ظل ذلك يمكن تصور جوانب التقاء مصري/ سعودي في أزمات محددة، لكنها ستكون مؤقتة وليس دائمة، كما أن العلاقات ستتسم أكثر بطابع بروتوكولي رسمي على حساب العلاقات الخاصة التي كانت في السابق.


ثانياً: اشتباك خليجي بدول الثورات: كانت أبرز ملامح التغير في النظام العربي على أثر الثورات تنامي علاقات مضطربة بين الأقاليم الفرعية للنظام العربي، فإلى حد كبير بدت دول مجلس التعاون في حالة من "الاشتباك" مع دول الثورات العربية في المشرق والمغرب والقلب متمثلة في مصر وليبيا وسورية واليمن وتونس. ليس فقط مع الأنظمة والفاعلين الرسميين، ولكن أيضا مع فاعلين من غير الدول وفاعلين أدنى من الدولة. فحين سقطت الأنظمة واصلت دول المجلس علاقاتها على نحو فردي وجماعي مع فاعلين أدنى بهذه الدول، وإذا كانت ملامح ذلك لم تتضح كثيرا في مصر وتونس، على الرغم من الأحاديث عن دعم خليجي للسلفية بكلتا الدولتين (ولحكم الإخوان على جانب قطر)، إلا أن ذلك اتضح بجلاء في ليبيا واليمن، وبرز بشكل كثيف في حالة سورية مع انخراط دول المجلس في تأييد ومساندة الجيش الحر وفصائل المعارضة السورية المسلحة، والدعم والإسناد الجهادي بالمال والسلاح. لقد بدت دول المجلس في حالة سباق مع الأحداث بهدف التصدي لإمكانات حلول أنظمة سياسية معادية لها في دول الثورات، وأيضا، وبالأساس من خلال خلق ساحات للفضاء الجهادي تفرغ من خلالها طاقات الجهاد الداخلية.
هكذا يبدو مستقبل النظام الإقليمي العربي مرتبطا بتطورات العلاقة بين دول المجلس ودول الثورات، وبشكل أخص بتطورات الأوضاع في سورية، فبحسب ما ستسفر عنه الثورة السورية يمكن ترجيح مستقبلات مختلفة للنظام الإقليمي العربي. والأساس أنه لفترة سنوات مقبلة ستضاف سورية إلى قائمة الهموم العربية، وقائمة أولويات الجامعة العربية، وهو ما يغير تدريجيا من قضية القلب في النظام. كما أنه سوف تتأثر عقيدة النظام وفلسفته الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي بقدر تراجع الدور السوري، وستطرح الأطراف الجديدة على المشهد السوري (الليبرالية والسلفية والإخوانية) تحدياتها وأخطارها الخاصة على مجمل تفاعلات النظام، وقد تشهد السنوات المقبلة حروبا وصراعات دموية وتدخلا إسرائيليا في أماكن حدودية من سورية، على غرار ما جرى مع لبنان. وإلى حد كبير فإن الإجازة التي منحتها جامعة الدول العربية في 6 مارس 2013 "لمن يرغب" من أعضائها تسليح "الجيش الحر" تشير إلى تحولات عميقة بجوهر النظام الإقليمي العربي وتفتح الباب لقرارات مختلفة للدول فرادى وليس للقرار العربي الجماعي.


ثالثاً: تواجه الشرعيتين "الملكية" و"الإسلاموية": كان أهم انعكاسات الثورات على النظام الإقليمي العربي قدوم مجموعة من أنظمة الحكم التي تتبنى العقيدة الإسلاموية كأيديولوجيا سياسية على امتداد الإقليم العربي مع توافر أبنية وشبكات أفقية هائلة للتداخل والتفاعل بينها على صعيد الإقليم، وقد جعل ذلك البعض يطلق على ما اصطلح بتسميته "الربيع العربي" بأنه "ربيع الإسلاميين". ولا تؤسس أنظمة الحكم الجديدة شرعيتها وحسب على الشرعية الدينية والتقليدية على غرار دول مجلس التعاون الخليجي، وإنما تتبنى مشروعا سياسيا قائما على الأيديولوجيا الإسلامية، ويؤمن بإمكان استنهاض طاقات الأمة عبر بديل حضاري مغاير لحقبة القومية العربية ومختلف عن المذهبين الاشتراكي والرأسمالي. لقد تمثلت أهم شواهد ذلك في حلول أنظمة جديدة تتبنى البديل الإسلامي في كل من مصر (الإخوان المسلمين) وتونس (حركة النهضة) على وجه التحديد، وألوان من هذه الأيديولوجيا الإسلاموية في كل من اليمن وليبيا، ثم سورية التي لا يتوقع لها الخروج كثيرا عن ذات القاعدة. وسوف يتوقف تأثير هذه الموجة الأيديولوجية على النظام العربي على الفترة الزمنية التي سيستمر فيها هذا التيار في الحكم، وهو أمر محل تفاوت حول ما إن كان الإسلاميون هم عارض مؤقت أم حقبة ممتدة سوف تدخل فيها الدول والمجتمعات العربية على امتداد عقود مقبلة.
حتى الآن لا يوفر أداء الإسلاميين في الحكم إمكانية لترجيح أي احتمال، لكن المؤكد أن وجودهم على رأس السلطة سيكون له تبعات هائلة على المشهد الإقليمي، وقد نكون إزاء حقبة من المغامرات الجديدة التي تستمر لفترة ممتدة تترك بصماتها على المنطقة دولا ومجتمعات. إن حلول أيديولوجيا إسلاموية في الحكم واستمرارها سوف يترك آثاره على المشهد الداخلي والإقليمي بشكل كبير وعلى التفاعلات الدولية للإقليم العربي. فعلى المستوى الداخلي فإن حلول الأيديولوجيا الإسلامية سيدخل دول المنطقة في حقبة من الصراعات الداخلية الجديدة حتى تستقر تركيبة الحكم، ليس فقط مع الطوائف المجتمعية مختلفة الديانة، ولكن أيضا مع التيارات الليبرالية والقومية واليسارية، وهو أمر يبدو أنه لن يجري حسمه سريعا، وأنه من الصعب التوصل إلى توافقات داخلية بشأنه، ويعني ذلك أن مزيدا من الدول العربية ستكون عرضة لمرحلة من عدم الاستقرار على نحو يهدد بمزيد من التراجع وبطول حقبة اللانظامية في الإقليم العربي.
وعلى الصعيد البيني، تدخل العلاقات بين دول الثورات ذات التوجه الإسلاموي ودول الملكيات الوراثية، وعلى وجه أخص دول مجلس التعاون الخليجي، في حقبة من التوترات البينية التي كشفت بعض معالمها، وإن لم تتضح تماما تجلياتها حتى الآن، لكن أحد أهم شواهد ذلك، ما بدا من توترات مكتومة بين حكم إخوان مصر وكل من الإمارات والسعودية والكويت، على وقع الكشف عن خلية إخوانية بدولة الإمارات لها امتداداتها في الكويت والسعودية، فضلا عن مخاوف دول المجلس الطبيعية من إخوان الداخل لديها، وذلك يمكن أن يجعل المنطقة بعد فترة تالية إزاء حقبة من الصراع على الهوية وأيديولوجيا النظام تتواجه فيها دول ملكية سنية وراثية مع دول جمهوريات إسلاموية، مع وجود تحزبات ومشايعات داخلية لكل طرف على الجانب الآخر. ومع سعي الأنظمة الجديدة لبناء شرعيتها داخليا وخارجيا فقد تعمل على تغيير تحالفاتها الدولية عبر الانفتاح على قوى إقليمية هي في حالة مواجهة مع الأنظمة العربية الملكية. وذلك ما يستشف من سعي كل من إيران والعراق إلى استغلال حاجة مصر الاقتصادية في جذبها للمعسكر الآخر، وتصب زيارة رئيس الوزراء المصري للعراق في 4 مارس الجاري -برفقة عدد من الوزراء و60 من رجال الأعمال- في الاتجاه ذاته، حيث ركز رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على استغلال زيارة نظيره المصري لأغراضه الخاصة، ما يوضحه قوله بأن: «مصر تشكل ثقلا عربيا بعد التغيير، والعراق أيضا أصبح من الدول الفاعلة في الوطن العربي، لذلك نطمح إلى عقد تعاون في شؤون المنطقة، والتحديات التي تواجهها وأبرزها الإرهاب والتطرف وقمع الشعوب"، وهو تصريح يحتاج لقراءة خاصة بشأن مغزاه، في ضوء علاقة المالكي الحميمية مع إيران.
وفي ظل هذه الحقبة فإن كل أعراف وتقاليد النظام العربي، وما أرسي من قواعد قليلة في العمل العربي المشترك على مدى الستين عاما الماضية ستكون في مهب الريح، حيث ستتغير أولويات النظام مع حلول القادم الجديد من الأنظمة الإسلاموية، التي قد تطرح مجموعة من المراجعات الكبرى بخصوص الحرب والسلام والصراع العربي الإسرائيلي على نحو يكرر حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.


رابعاً: جهاد مذهبي إقليمي: بموازاة الصراعات النظامية المحتملة التي تطرحها حقبة الحكم الإسلاموي الأيديولوجي على النظام العربي، تشير بعض المؤشرات على الصعيد المجتمعي، إلى احتمالات دخول النظام العربي حقبة من الصراعات الأدنى غير النظامية، وعلى مستوى أدنى من الدولة بين فاعلين وشبكات إقليمية إسلاموية وامتداداتها الشبكية عبر الإقليم، وهو أمر طرحت الأزمة السورية مقدمات له ومؤشرات عليه، حيث تجري ممارسات جهادية تشير إلى تبلور نمط جهادي جديد هو "الجهاد المذهبي"، كنمط جديد من الجهاد القائم على أساس المذهب، فهو ليس جهاد إسلامي ضد دولة غازية على نحو ما جرى في أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات، وإنما جهاد لأجل حماية أهل المذهب من أنصار وجهاديي المذهب الآخر. وذلك ما تشير إليه العديد من المصادر التي أكدت وجود مجاهدين شيعة في الخطوط الأمامية بريف دمشق، في إشارة إلى مجموعة من المجاهدين الشيعة من لبنان والعراق ممن أنشأوا لواء للجهاد تحت مسمى "أبو الفضل العباس" لدعم النظام السوري، وحماية المراقد الشيعية، كما أنه من المعروف وجود عناصر إيرانية من الحرس الثوري داعمة لنظام بشار وتشارك قواته في التخطيط والقتال الميداني، وهو ما يشير إليه القبض على إيرانيين في سورية ووقوع قتلى إيرانيين في معارك داخلية، وانخراط مقاتلين من حزب الله في المعارك تأييدا للنظام السوري. وكان لافتا ما حذر منه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي منذ أيام، الذي صرح بأن انتصار معارضي الرئيس بشار سيفجر حروبا أهلية في بلاده ولبنان وانقسامات في الأردن، ومن شأنه أن يخلق ملاذا جديدا لتنظيم القاعدة سيزعزع استقرار المنطقة.
كل ذلك يشير إلى إرهاصات وملامح تحول استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، عنوانه العريض "بداية معركة الاستقطاب المذهبي الإقليمي المسلح" بين السنة والشيعة، وبداية حقبة من الصراعات بين القوى الأدنى من الدولة - والعابرة للدول - التي تحارب بالوكالة عن الدول. وإذا كان الاستقطاب السني الشيعي قائما منذ القدم، فإن الجديد فيه هو بروز ظاهرة "الجهاد الشيعي المسلح" قبالة الجهاد السني المسلح. ويفتح تطور هذه الظاهرة الاحتمال لأن تصبح شاغلا أساسيا في الحقبة الإسلاموية للنظام العربي، وتتيح الأوضاع في سورية احتمالات لتطور هذه الظاهرة وتناميها رويدا رويدا، مع احتمالات وقوع صدامات أشد بين أحزاب وقوى شيعية سنية حينما تفرغ هذه القوى من معركتها الرئيسية مع النظام في دمشق، مما يشير إلى إمكان تجدد صراعات تاريخية تكون لقوى إقليمية متعددة مصالح في إشعالها. وربما أكد ذلك التهديد الذي أطلقه الجيش السوري الحر في فبراير 2013، بقصف مواقع لحزب الله في لبنان تنطلق منها صواريخ باتجاه مناطق تقع تحت سيطرة المعارضة السورية بمنطقة القصير في حمص، وهو التهديد الذي نفذه بعد انتهاء مهلة الـ 48 ساعة التي منحها لحزب الله. إن هذه الوقائع هي مؤشرات ضئيلة قد تؤرخ لبدايات معركة مذهبية إقليمية كبرى مستقبلا تنخرط فيها دولا وقوى أدنى على الصعيد الإقليمي تغير شبكة علاقات الإقليم، وتؤشر لأكبر تحول في علاقات المنطقة بإنشاء محاور مذهبية عابرة للدول. وقد يصبح حزب الله الذي تصدر المقاومة ضد إسرائيل خلال السنوات الماضية أحد الأطراف التي يجري تصفيتها في هذا الصراع، وتشير التوقعات إلى أن تصبح سورية نقطة تمركز إقليمية تجتمع فيها قوى الجهاد لتخوض معركة الجهاد المذهبي الرئيسية، والتي لدى فرقائها من المتشددين على الجانبين مصالح في إشعالها توازي ما لدى أنظمة وقوى إقليمية من رغبات في ذلك.


خامساً:  تبدل في عقيدة النظام: أدخلت الثورات العربية تغيرات كثيرة على قيم النظام العربي وعقيدته المركزية، فإحدى أهم القواعد التي ترسخت في العمل العربي على مدى العقود الماضية، هو مبدأ حرمة التدخل في الشؤون الداخلية، وهو مبدأ تأكد في ممارسات الجامعة العربية التي نشأت كجامعة بين الدول وليس الشعوب، وهو أمر أدى إلى انعزال كل نظام سياسي في دولة عربية بشؤون دولته، وأدى إلى تراجع مبادئ وقيم حقوق الإنسان التي لم يترسخ قيمة التدخل لحمايتها ضد نظام سياسي محدد، وهو أمر ترك الأنظمة التسلطية في حالة متحررة من كل القيود. لكن مع نشوب الثورات أخذ هذا المبدأ في الانهيار الدراماتيكي، ما بدا بشكل أساسي في التدخل العسكري والسياسي رسميا وفعليا في ليبيا وسورية، فكانت الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي أحد أدوات التغيير بالقوة سواء بالمال أو السلاح أو بالمبادرات السياسية التي دعت قيادات لدول بالجامعة للتخلي عن الحكم ومغادرة السلطة، وهو أمر لم يكن شائعا ضمن إطار جامعة الدول العربية. وتتيح أوضاع المجتمعات العربية على أثر الثورات إمكانات مضاعفة في التأثير في الوضع الداخلي لكل منها قبل الأخرى، على سبيل المثال، فإن هناك مؤيدين لحكم الإخوان في دول مجلس التعاون الخليجي، وبالمثل هناك مساندون لدول المجلس في دول الثورات متمثلة في قوى سلفية وليبرالية وقوى النظام السابق. ويشير ذلك إلى احتمالات تكثيف التعاون بين قوى أدنى من الدول؛ فيمكن أن نجد علاقات خليجية مع مؤسسات الاستخبارات والمؤسسات العسكرية خلف العلاقة مع جهاز الحكم الذي يرأسه الإخوان الذين تتراجع الثقة بينهم والعسكر، وتسمح المرحلة التي يمر بها الإقليم بذلك، حيث تجعل الخصومات الداخلية القوى الأدنى والأجهزة والمؤسسات بدول الثورات في حالة رخوة، بما يعني أن تضرر العلاقات الخليجية الإخوانية على مستوى مؤسسات الرئاسة والمؤسسة التشريعية لت يحول دون استمرار العلاقات مع مؤسسات أخرى في دول الثورات.
 وفي الإطار العربي العام، لم يعد هناك صراع بين معتدلين وممانعين في النظام العربي حول منهج التسوية بشأن القضية المركزية، وإنما انخرط المعتدلون في تصفية الممانعين، وهو ما يعني أنه لفترة طويلة لن تعود القضية الفلسطينية كقضية مركز تفاعلات النظام، وإنما سيكون العمل على استتباب الأمور لقوى الاعتدال في دول الممانعة، وإلى حد كبير ستظل دول الثورات العربية وسورية تحديدا مركز التفاعلات والاهتمام الرئيسي وستضاف إلى قائمة الهموم الخاصة بالنظام، وسيكون الصراع على سورية لب الصراع في الشرق الأوسط، في ظل موجة جهادية جديدة لم يزل لديها الحافز والطاقة لتجريب ذاتها في صراعات داخلية وإقليمية. ومن الصعب إقرار ما إن كان هذا التبدل في عقيدة النظام هو استجابة مرحلية أم اتجاه قد يستمر لفترة.
 
سادساً: صراعات ممتدة داخل وحدات النظام: كشفت الثورات عن مشكلات طائفية وقبلية في الدول العربية، ينتمي بعضها إلى عصور ما قبل الدولة، وبعضها نتج عن الفساد المنهجي الذي تعرضت له المجتمعات العربية خلال العقود الأخيرة. إن تفكيك الأبنية الفاسدة للأنظمة السابقة ستكون عملية مجهدة، وتحتاج لثورات اجتماعية وثقافية وسلوكية أدنى ستصبح هي الاختبار الأصعب للثورات العربية. ومن المرجح أن تمر دول الثورات بفترة طويلة من عدم الاستقرار، والصراعات الداخلية، وستترك نتائج هذه الصراعات بصماتها على الوضع الإقليمي، وأول تأثيرات ذلك أن النظام العربي سوف يفتقر لأدوار هذه الدول وقيمتها المضافة داخل النظام، وثانيا أن الفشل في بناء الدولة الجديدة قد ينتهي إلى كيانات جزئية أدنى تسعى للانفصال بذاتها وتكوين بؤر لكيانات سياسية أصغر، وهذا الاحتمال وارد في ليبيا واليمن وسورية تحديدا، وهو ما يعني أن النظام العربي لفترة مقبلة سوف تدخل إليه مشكلات مضافة خاصة بإدارة عملية تجزئة الدول العربية وتوفير الغطاء السياسي أو رفض توفيره بالنسبة لها، على نحو يزيد من التفاعلات الصراعية في الإقليم. فالتجربة العربية فيما يتعلق بالدول الشقيقة المنفصلة أو التوأم الناتجة عن حالة انفصال الدولة الواحدة هي تجربة سلبية، تشير إلى أنه في الأغلب تدخل الدول المتفككة عن كيان سياسي واحد في صراعات طاحنة بين بعضها البعض، ولا تهدأ قضيتها بمرور الزمن، وتلجأ إلى الصراعات المتناوبة. وثالثا، فإن الفشل في التعايش السياسي وبناء النظام واستعادة الدولة يبدو أنه سيكون مشهدا مستمرا لفترة مقبلة، مع تنامي الصراع الشديد بين التيارين الليبرالي والإسلامي، وهو الأمر الذي من المرجح أن يطول، على نحو يؤسس لتحالفات أفقية وعرضية إقليمية تعرض مفهوم الدولة لاهتزازات عنيفة. وتبدو إلى جانب ذلك احتمالات الانتكاسة بمرور بعض دول الثورات العربية بانقلابات عسكرية على أثر فشل النخب الجديدة في إدارة شؤون البلاد، وهو أمر يرجح أن تدعمه قوى ليبرالية وسلفية. وتبقى قضية تحقيق شعارات الثورات الخاصة بالعدالة الاجتماعية أهم ما يعترض الاستقرار السياسي في هذه الدول، التي تعاني من الفقر وغياب العدالة الاجتماعية، مع قوى قديمة تعارض المساس بأوضاعها ومكاسبها الاجتماعية والاقتصادية. إن ذلك يعني أن النظام العربي مرشح لمرحلة من التغيير، سوف تنعكس عليه بقدر استقرار وحداته وطول أو قصر الفترة الزمنية المطلوبة لذلك، ومدى نجاح الثورات فعليا على الأصعدة المختلفة، وهي أمور غير مؤكدة. وبالتأكيد أن تغير طبيعة النظم سيؤدي إلى تغير طبيعة العلاقات والتحالفات بين دول الإقليم.
 
سابعاً: اختراقات الجوار الإقليمي: تمثلت إحدى نتائج الثورات في مزيد من حالة السيولة بين النظام العربي ودول الجوار الإقليمي، التي عملت على استغلال وضع الثورات وسقوط أنظمة الحكم، في السعي لبناء علاقات أقوى مع النظم الجديدة، والتدخل من أجل دعم أطراف داخلية محددة. وإلى حد كبير، يلاحظ تركيز التحرك الإقليمي لدول الجوار الثلاثة: إسرائيل وتركيا وإيران، على ثلاثة مداخل خلال فترة ما بعد الثورات؛ فبينما اتجهت إسرائيل إلى مراقبة الوضع العسكري الإقليمي واستغلال الانشغال بالثورات في العملية العسكرية في غزة، وتوجيه ضربات جوية لمعسكر اليرموك بالسودان، وشن غارة على مركز أبحاث عسكري في دمشق، ومهاجمة قافلة سورية على الحدود مع لبنان، فقد عملت تركيا على الاقتراب من جهاز صنع القرار الجديد بدول الثورات، وطرحت ذاتها كنموذج يحتذى من قبل النخب الجديدة في هذه الدول على نحو ما جرى مع كل من مصر وليبيا وتونس، وما يجري مع سورية عبر دورها مع المعارضة السورية المسلحة. أما بالنسبة لإيران، فكان تدخلها في الشأن العربي عبر أدوات أخرى، منها التأثير الطائفي على نحو ما برز في البحرين وسورية، ومؤخرا باليمن. وإلى حد كبير يبدو لأنظمة دول الثورات رغبة في تغيير تحالفاتها الإقليمية، والتغلب على جوانب الاعتراض الإقليمي العربي إزائها، وذلك أحد الأسباب التي تدفع حكم الإخوان في مصر إلى التقارب مع إيران، ولكن تبقى القدرة على إحداث تغيير استراتيجي بأسس وأركان السياسة الخارجية لدول الثورات عملية صعبة ودونها مخاطر وتحديات هائلة، في ظل وضع دولي جديد مغاير لحقبة الخمسينيات والستينيات.
ويبقى أن مستقبل الوضع بالإقليم العربي سوف يتوقف على مجموعة من الأمور، أهمها: المسارات التي سيأخذها التحول السياسي الجاري في النظم العربية بعد الثورات، والفترة التي تأخذها حقبة عدم الاستقرار السياسي، وهل تتمكن دول الثورات من الانتقال إلى الديمقراطية؟ وهل شروط وقواعد الانتقال الديمقراطي متوافرة في ظل صراعات الاستقطاب الحادة بين الإسلاميين والليبراليين؟ وإلى أي حد سينعكس التغير في أنظمة الحكم على أداء النظام العربي، وطبيعة العلاقات بين دول الثورات ودول الملكيات، ودور الجامعة العربية في إدارة هذه العلاقات.



* د. معتز سلامة
 رئيس وحدة دراسات الخليج - مركز الأهرام


أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)