آخر الأخبار
 - تواصل الجرافات المصرية صباح مساء حملتها الأمنية المتواصلة ضد الأنفاق الواصلة بين غزة وسيناء، باعتبار أنها غير قانونية من جهة، وتتسبب...

الثلاثاء, 05-مارس-2013 - 12:49:37
مركز الإعلام التقدمي- معهد العربية للدراسات -

تواصل الجرافات المصرية صباح مساء حملتها الأمنية المتواصلة ضد الأنفاق الواصلة بين غزة وسيناء، باعتبار أنها غير قانونية من جهة، وتتسبب في نشر الفوضى الأمنية من جهة أخرى في هذه المنطقة الحساسة، وهو ما يفتح النقاش مطولاً حول ظاهرة الأنفاق، واستخداماتها، والموقف منها، ومستقبل العلاقة بين غزة ومصر في قادم الأيام بعد إغلاقها كلياً.
المدخل المقاوم
اعتبرت "حرب الأنفاق" أحد أهم وأخطر الأساليب العسكرية التي استخدمتها المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
وعلاوة على كونها أسلوباً جديداً شق طريقه إلى المعادلة الكفاحية، وحفر لنفسه موقعاً متميزاً في سلك العمل العسكري المقاوم، فإن البعد النوعي والاستراتيجي الذي مثله، وما حققه من آثار بشرية ومعنوية، فقد شكل تهديداً بالغاً وتحدياً منقطع النظير للآلة العسكرية الإسرائيلية المدججة بكافة آليات الحرب الفتاكة، والنظريات الأمنية التي يضرب بها المثل في اختزان كافة وسائل وإجراءات الحماية والوقاية واستباق ضربات الخصم.
وقد دلل كل ذلك على حجم المأزق الذي عاشته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على وقع هذا التطور الفلسطيني المقاوم، حيث كمنت خطورة أسلوب الأنفاق في اعتماده على العمل الهادئ الذي يتم بموجبه حفر نفق تحت الأرض، بوسائل ومعدات بسيطة، والمثابرة على العمل دون ضجيج، وفق إحداثيات جغرافية معدة سلفاً، دون ظهور مباشر على سطح الأرض.
وهذا يحرم الاحتلال إمكانية التعامل معها، وإحباط المخطط الفلسطيني، أو التصدي له حال التنفيذ، كونه يعتمد على عامل المفاجأة الذي يربك العدو من خلال تفجير أو تفجيرات فورية متتابعة تحقق مبتغاها، وتنشر الموت والدمار في الموقع المستهدف، وتوقع فيه أفدح الخسائر والعواقب.
وحسب المعلومات المتراكمة، فإن "الحفارين" المتخصصين بحفر الأنفاق يعتادون النزول إلى باطن الأرض بعد فترة طويلة من عدم شربهم للماء حتى لا يعرقوا، لأن العرق قد يتسبب بانهيار النفق أثناء العمل، ويتم الحفر بشكل عام بواسطة جهاز ميكانيكي وليس كهربائي حتى لا يصدر الضجيج.
ويرتكز جهاز الحفر على سلسلة تشبه تلك الموجودة في الدراجات الهوائية حيث تقوم بتحريك قطع حديدية تحفر الرمل، وأثناء تشغيل الماكينة ينام الرجل على ظهره، ويقوم بتحريك الدعاسات.
وحقيقة أن الحفر يتم بعضلات الأرجل وهي الأقوى في عضلات الجسم، وتمكن من الصمود طويلاً حتى يحتاج الشخص للقيام، ولضمان عدم حدوث انهيارات داخل النفق خلال وبعد حفره، وغالباً ما يتم استخدام شكل مستطيل من الخشب المقوى لمنع حدوث أي انزلاقات رملية متوقعة.
وقد كثفت قوى المقاومة في انتفاضة الأقصى عملياتها الفدائية من خلال أنفاق حفرتها، في ظل صعوبة الوصول للمواقع العسكرية الإسرائيلية، بسبب التحصينات الكبيرة، واستخدام التكنولوجيا المتطورة في حمايتها، وقد اكتشفت قوات الاحتلال خلال أشهر ثلاثة فقط 12 نفقاً.
وعلى ضوء ذلك هدمت عشرات المنازل القريبة من الشريط الحدودي مع مصر، وسبقتها السلطة الفلسطينية باكتشاف وتدمير ما يزيد على 25 نفقاً، مما جعل القيادات العسكرية للجيش الإسرائيلي تصف ظاهرة الأنفاق بأنها "أنبوب الأكسجين للنشاطات المعادية".
وقد اعتبرت المصادر الإسرائيلية أن حرب الأنفاق التي خاضتها قوى المقاومة، وعلى رأسها حماس، جعلت المؤسسة العسكرية في حيرة من أمرها، لدرجة دعت صحيفة "هآرتس" لأن تعنون خبرها الرئيس بعبارة "الجيش الإسرائيلي يتحسس طريقه في الظلام"!
مواجهة الحصار
في فترة لاحقة، انتقل استخدام الأنفاق من العمل المسلح المقاوم فقط، إلى استخدامات أخرى، بدأت فور أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006، ومن ثم فرض سيطرتها على قطاع غزة أواسط عام 2007، حيث فرضت إسرائيل حصاراً اقتصادياً محكماً عليها، بحيث أغلقت المعابر الاقتصادية، وأوقفت الحوالات المالية، وأعلنت وقف التعاملات التجارية.
وأوشك قطاع غزة على الانفجار بسبب سوء الظروف المعيشية، مما دفع بحماس لأن تشرع في إجراءات بديلة كان على رأسها الأنفاق على الحدود المصرية.
وتشير الكثير من التقديرات الأمنية والاقتصادية إلى أن كمية الأنفاق العاملة بين سيناء وغزة ليست مسبوقة في تاريخ المنطقتين من قبل، حيث لم يعرف القطاع منذ نشأته أنفاقاً بهذه الكمية والعدد، توصل لسكانه كل ما يريدون من احتياجات، بحيث أنها زادت عن 1200 نفقاً، كانت تسمى "أنفاق التهريب".
ومنذ أواخر 2009، طرأ تكبير وتوسيع لها من تحت الأرض، لتلائم أنفاق دول كبرى، حيث توجد أنفاق تصنع من الباطون، تمشي فيها شاحنات ممتلئة بالبضائع والمحروقات، بصورة متاحة بدون أي إزعاج من أحد!
ويبدو من تقرير أعدته المخابرات الإسرائيلية، تسربت بعض فقراته إلى وسائل الإعلام، أن قطاع غزة يشهد حالة رائجة من "صناعة الأنفاق"، وتضم في صفوفها ما بين 20-25 ألف عامل، من على كلا جانبي الحدود المصرية الفلسطينية، ويبلغ حجم البضائع وتكلفة المنتجات التي يتم تهريبها من مصر إلى غزة مليار دولار سنوياً!
ويمكن الإشارة هنا إلى أن مواد البناء تعرف طريقها جيداً من تحت الأرض، وبصورة غزيرة إلى قطاع غزة،، للدرجة التي جعلت أسعارها تنخفض بعد امتلاء القطاع منها، ففي الوقت الذي وصل فيه ثمن طن الحديد عام 2008 الواصل من الأنفاق إلى 4 آلاف شيكل، ما يقرب من 1066 دولار، فقد انخفض ثمنه إلى النصف، ألفي شيكل، حوالي 533 دولار!
كما أن ثمن طن الاسمنت الذي وصل 4 آلاف شيكل، انخفض لما يزيد عن 75%، ووصل 900 شيكل، ما يقرب من 240 دولار! وباتت أكياس الاسمنت وعربات الحديد تملأ محلات قطاع غزة، وبأسعار في متناول اليد، لا تعرفها أسواق أخرى في الشرق الأوسط!
لكن "آفي سخاروف"، المراسل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية زعم أن العدد التقريبي للأنفاق بين قطاع غزة وسيناء يقترب من 500 نفقاً، يكلف حفر الواحد منها 75 ألف دولار، تعد مصدر دخل وأرباح ضخمة لصالح حركة حماس، وتقدم شهادات ترخيص لفتح أنفاق لمن ترى ان لديه القدرة على الوفاء بالتزاماته المالية، وتحقق في كل شيء، وتمنع تهريب المخدرات والكحول، ونقل الأسلحة بالقرب منها.
وأضاف: حماس تراقب الأنفاق جيداً، وعناصر من الجهاديين يتنقلون بحرية من خلالها لسيناء، وبالعكس لغزة، والمخابرات المصرية تغضب من أفعال حماس، وتطالب بمراقبتهم، وتتهمها بتجاهل أفعالهم، لأنها تسيطر على كافة الأنفاق الواقعة شرق معبر رفح.
ولذلك فإنه على المدى الطويل إغلاق الأنفاق سيشكل مشكلة حقيقية لحماس، وتهديداً مباشراً مع سيطرة العشائر الكبيرة على معظمها، وهي عائلات ذات قوة حقيقية جنوب قطاع غزة، ولا ترغب حماس بمواجهتها.
كما أن عناصرها يقومون بتهريب الأسلحة بسهولة، ورجالها يذهبون للتدريبات والاجتماعات في سيناء، ودخلها يعتمد على الأنفاق التي تشكل 10-15% من ميزانية حكومة حماس.
تهريب السلاح
في ذات الإطار، كان واضحاً أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، المسماة عمود السحاب 2012، لم تضع أوزارها على قطاع غزة، إلا بعد أن أخذت إسرائيل تعهداً من مصر ببذل جهود حثيثة لوقف تهريب الأسلحة إلى حركة حماس، من خلال الأنفاق، تخوفاً من تنامي قوتها العسكرية تحضيراً للجولة القادمة.
ولذلك حصلت زيارات متبادلة بين القاهرة وتل أبيب لبحث وتقييم آخر الجهود الأمنية في هذا الإطار، كان آخرها قبل أيام قليلة.
وترى تل أبيب أن القاهرة تمر هذه الأيام بـ"مرحلة اختبار" ستعمل فيها لمنع تسلح غزة من جديد بصواريخ طويلة المدى تهددها، خاصة وأن جزءً مما أطلق تجاهها وصلت من عواصم خارج الحدود، ومرت عبر آلاف الكيلومترات، دون أن تحرك مصر ساكنًا لمنع تهريبها عبر الأنفاق، رغم توقع الولايات المتحدة وإسرائيل أن يعمل الحكم الجديد في القاهرة بكل قوة ضد تهريب السلاح عبر أراضيها لقطاع غزة، لافتة إلى إحباط 3 عمليات تهريب سلاح إلى غزة، وصلت من إيران وليبيا.
ورغم أن إسرائيل تفرض ظلالاً كثيفة من التكتم حول مسارات التهريب، لكنها تزعم أن جزءً لا بأس به من الأسلحة المهربة إلى غزة قادمة من أماكن بعيدة، وتتساءل عن كيفية وصولها إلى سيناء رغم المسافات الشاسعة، ناهيك عن دخولها قطاع غزة، لأن المسافة تزيد على 2000 كم.
ورغم أن التحركات في سماء المنطقة تقع تحت رقابة سلاح الجو الإسرائيلي، فإنها لا تخفي تخوفها من افتتاح مسارات جديدة لتهريب الأسلحة إلى غزة لاسيما من خلال حفر المزيد من الأنفاق بعيداً عن أعين أجهزة الأمن المصرية.
حلول مبتكرة
ورغم أن قيادة الجيش الإسرائيلي استنفرت جميع وحداتها للبحث عن حل أمني عسكري أو تكنولوجي لمشكلة الأنفاق، مما دفع بالعقيد احتياط "تسفيكا فوكس" من سلاح المشاة لأن يؤكد أن الحل الحقيقي بالفعل هو تكنولوجي، فمن الواضح أن الحل الخيالي بأن تقوم طائرة بدون طيار بالتصوير عن طريق الأشعة السينية لسطح الأرض، ويكشف الأنفاق لن يكون موجودا في الفترة القريبة.
ويقترح "فوكس" الذي يعمل اليوم مسئولا عن التخطيط الاستراتيجي في الصناعات العسكرية الارتكاز على المجسات من أنواع مختلفة يتم إدخالها في الأرض، وبدأت الصناعات العسكرية بالعمل على عدة أفكار واقتراحات قد تنجح.
وقد دفعت معضلة الأنفاق العقيد "داني غولد" مسئول الأبحاث والتطوير في الجيش الإسرائيلي للقيام بجولة في المصانع الأمنية، وتحدث عن الاحتياجات، وبحث عن الإجابات، وتوجه نحو الجامعات للحديث مع مختصين في مجالات مختلفة، والجملة الوحيدة التي كانت في فمه: إيجاد حل لمشكلة الأنفاق وبسرعة، المال ليس مشكلة، وسيكون الجيش مستعدا لدفع أي مبلغ من أجل التغلب على "العدو" الموجود تحت الأرض!
وبعد كل هذا البحث، وبعد إعمال مئات المختصين فكرهم في محاولات للتوصل إلى بارقة أمل تكنولوجية تمكن من تحديد الأنفاق وتدميرها، جاءت الإجابة: نحن مضطرون للاعتراف بأنه لا توجد لدى الجيش حل سحري لمشكلة الأنفاق!
كما عمل الجيش على استخدام أسلوب آخر تمثل بإضافة خراطيم المياه لتدمير الأنفاق، ففي اعتقاد الجيش أن هذه الخراطيم ستحدد مكان النفق، وستتغلغل المياه إلى داخله، ومن ثم تؤدي إلى انهياره، بعد أن وصلت إنذارات ساخنة جدا لدى الأجهزة الأمنية مفادها أن قوى المقاومة تخطط لنوع جديد من العمليات، وأهمها محاولة بناء أنفاق لاستخدامها في عمليات تفجير وأنفاق أخرى لتهريب استشهاديين من تحت الجدار الفاصل الذي تم بناؤه على حدود قطاع غزة بعد الانسحاب.
ولمواجهة ذلك نقلت أجهزة الأمن موارد خاصة شملت إضافة وسائل استخبارية تكنولوجية جديدة، وجرافات ضخمة ذات قدرة عالية على تحديد الأنفاق، وآليات حفر تحت الأرض.
في ذات السياق، زعمت محافل أمنية إسرائيلية مواصلة الجيش المصري في سيناء لحملته الأمنية لإغلاق وتدمير أنفاق التهريب الحدودية مع قطاع غزة، عبر إغراقها بمياه الصرف، وأنه عازم على التخلص نهائيا منها، رغم خشية العاملين فيها من وقوع انهيارات داخلها بعد ملئها بالمياه، حيث يبلغ عددها 1200 نفقاً.
مع العلم أن غمرها بمياه الصرف الصحي ليس تكتيكاً جديداً، بل إحدى الوسائل المتبعة في الجيش المصري لتدميرها، ويتم اللجوء لهذه الوسيلة حين يكون النفق مجاورا لمنطقة سكنية أو منشآت لمواطنين، وتخشى من أن يؤدي تفجيره لانهيارات أرضية تؤثر على منازل أهالي سيناء في هذه المنطقة.
فيما أكد مصدر عسكري مسئول أن عدد الأنفاق الموجودة على الشريط الحدودي في رفح، وتم التوصل إليها 225 نفقًا، نافيًا الأرقام الضخمة التي ترددت بهذا الصدد، لأنه إذا تم حساب أن كل نفق له عدة مخارج منها داخل المنازل المصرية، ويصعب كشفها، سنكون أمام 550 فتحة نفق.
كما تواصلت عمليات ردم الأنفاق، بعد نقل المعدات العسكرية للمناطق السكنية في منطقة صلاح الدين، وردم الأنفاق في المنطقة بحذر شديد، وتحت إشراف مسئولين وفنيين حتى لا تتأثر المنازل خلال لعملية الردم، حيث توجد 12 آلة تعمل في مناطق سكنية متفرقة برفح، وستستغرق العملية أكثر من 4 أشهر، نظرًا لكثرة عددها، تقدر بألف نفق موزعة على امتداد الشريط الحدودي، وهناك تكثيف أمني بجوار الأنفاق التي لم تردم.
وقد حققت حملة تدمير الأنفاق نجاحاً ملحوظاً بعد تنفيذ سلاح المهندسين بالجيش المصري آلية لتدميرها بأساليب فنية جديدة، تؤدي لتدمير جسم النفق، وإعادة التربة لطبيعتها مرة أخرى، وإعاقة إعادة تشغيله مرة أخرى كما حدث في السابق.
مصر في غزة
لا يمكن المرور سريعاً على إجراءات الجيش المصري ضد أنفاق غزة على كونها سلوكاً عملياتياً فحسب، بل اعتبره الخبير العسكري "إيال عوفر" مقدمة للانفصال الإسرائيلي الحقيقي عن قطاع غزة، بحيث يمكن ربطه بمصر من جديد، لتصبح مسئولة عن تزويده بالسلع والمحروقات من غير أن تمر عن طريق إسرائيل، وبهذا تنفصل نهائياً عن غزة.
وأضاف: في ضوء أنه لا يمكن لإسرائيل القضاء على حماس، أو إعادة غزة للسلطة الفلسطينية، لأنها برهنت على عدم قدرتها على حكمها، فإن مصر الإخوان المسلمين تشعر بأنها مسئولة عنها، فحماس هي الإخوان المسلمون فرع فلسطين، وتستطيع مصر أن تتحمل مسؤوليتها، وتهدئ الوضع، وتحظى بمقابل اقتصادي وسياسي، لاسيما بعد أن مكّنت مصر مبارك من لعب لعبة مزدوجة بأن تُلقي على إسرائيل المسؤولية عن الحصار، وتغض عينها عن الأنفاق "الإنسانية" لسيناء.
وختم بالقول: مصر برغم مشكلاتها لا تنتقض عُراها كالسلطة الفلسطينية، وإن تغير الحكم فيها، و"التماهي العقائدي" بين الإخوان المسلمين وحماس يُنشئان نافذة فرص نادرة لربط غزة بمصر، وفصلها عن "إسرائيل" بالتدريج، بل إنها تستطيع أن تطلب تطبيق اتفاق السلام مع مصر على غزة التي كانت حتى عام 1967 أرضاً مصرية من كامل جوانبها، ومصر قوية بقدر كافٍ لتحكم غزة أيضاً.
في ذات السياق، تطرح التساؤلات في عواصم صنع القرار ذات الصلة: القاهرة وتل أبيب وغزة: كيف نبدأ؟ والإجابة تشير إلى أن المرحلة الأولى ستكون تمكين مصر من فتح كامل لمعبر رفح، للأفراد وللسلع، برقابة مصرية، وحينما يصبح المعبر مفتوحاً، لن تعود هناك حاجة "إنسانية" للأنفاق، وسيكون نقل المحروقات مباشرة من مصر إلى غزة، الإشارة الأولى لربط القطاع بها من جديد.
وهكذا يمكن للمصريين أن يُظهروا مكانتهم الخاصة نحو غزة، وان يكسبوا في المقابل عملة أجنبية من التجارة المشروعة إلى غزة ومنها، وستكون المطارات والمواني في سيناء الباب الجديد إلى غزة، ويمكن إغلاق المعابر الحدودية لإسرائيل!
أكثر من ذلك، يأتي الإجراء المصري لإغلاق أنفاق غزة في ذروة انسداد أفق التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتقدير السائد بألا يحدث اختراق جدي مع الحكومة القادمة، مما يدفع بالجانبين لتداول أفكار "من خارج الصندوق" لإيجاد حلول مؤقتة للوضع القائم في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولئن كانت بعض هذه الأفكار من أرشيف الماضي، لكن الوقائع المستجدة يومياً تجعلهم يلجأون لمحاولة استعادتها من كتب التاريخ، ومحاولة تهيئتها لتكون سياسة واقعة، في ظل تهاوي السلطة الفلسطينية، وفقدانها لمزيد من الأدوار والمهام.
الحديث يدور بصورة واضحة عن فرضية العودة بالأراضي الفلسطينية لما قبل حرب العام 1967، حيث كانت مصر تدير قطاع غزة، ورغم أن نتائج الحرب "أزاحتها" إلى حدودها، وجاء الاحتلال الإسرائيلي للقيام بهذا الدور، لكن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسور خلال السنين الـ40 الماضية، وبات الجميع أمام مفترق طرق قد يؤدي إلى مسارين جديدين، أولهما إعادة تشكيل خارطة الأراضي الفلسطينية، وثانيهما فرض إسرائيل لحدودها الأمنية مع دول الجوار.
وقد حفلت الأوساط السياسية والأمنية والعسكرية في إسرائيل بالعديد من الأيام الدراسية والندوات العلمية والتوصيات الوزارية، التي تناقش جميعها فرضية منح مصر دوراً إدارياً جديداً في قطاع غزة.
الضم الزاحف
وتعتقد القراءة الإسرائيلية اليوم بإمكانية توسيع نفوذها عما كان عليه الوضع سابقاً، وصولاً لما تطالب به قوى يمينية بات لها نفوذ كبير بعد الانتخابات الأخيرة، من حيث التخلي عن "حل الدولتين لشعبين"، ونقل مسئولية قطاع غزة إلى الإدارة المصرية، بالتوازي مع الدعوة لإقحام الأردن في الضفة الغربية تحت دعاوى شتى وأسباب متعددة.
وهناك جو عام في إسرائيل مؤيد لخطوة "أعطوا غزة لمصر"، خاصة بعد تَدخلها الأخير في الحرب السابقة، والرغبة بإيصال رسالة لها بتولي المزيد من المسئوليات عن احتياجات الفلسطينيين من الغاز والماء والكهرباء، لعدد من الأسباب، أهمها أنه لم يعد هناك شيء في غزة تبحث عنه إسرائيل، بعد مرور أكثر من 7 سنوات على الانسحاب أحادي الجانب عنه، ولا يوجد مستوطنون تدافع عنهم، ولا تحتاج قافلات لحراستهم.
فيما أكد تقرير الأمم المتحدة الأخير أن غزة مع حلول عام 2020 لن تكون صالحة للعيش الآدمي، فضلاً عن كون السلطة الحاكمة فيها، وهي حماس، تعتبرها إسرائيل غير قانونية!
لكن الاعتبار الأمني لدى إسرائيل بدفع غزة نحو مصر هو الأكثر تشجيعاً، وهو ما عبر عنه الجنرالان "غيورا آيلاند" رئيس مجلس الأمن القومي السابق، والمنظر الاستراتيجي لخطة الانسحاب من غزة، و"يعكوف عميدرور" مستشار الأمن القومي الحالي، بالقول أن مصر لا تحب إسرائيل، صحيح، لكنها تريد هدوءً على حدودها، كما هو الحال مع سوريا حيث يسود الهدوء هضبة الجولان منذ 40 عاما، وليس بينهما اتفاق سلام!
كما يعتبر وجود أكثر 1.5 مليون فلسطيني في غزة مشكلة ديموغرافية لإسرائيل ما زالت محلقة في سمائها، ما قد يعني أن الوقت المناسب للتخلص منها حالياً، إما بقيام دولة منفردة في القطاع تقودها حماس، أو دفعه نحو مصر، وتحويله جزءً منها، حينها لن يتعامل العالم مع إسرائيل كدولة محتلة، وإذا واصل الفلسطينيون إطلاق الصواريخ من هناك، يحق لها أن ترد عليهم بقوة، إلى حين التوصل معهم لما يعتبره الجانبان هدنة لفترة طويلة جدا!
العودة للتاريخ قد تبدو مفيدة عند نقاش قضية آنية، بالإشارة إلى أن مثل هذه الخطة الإسرائيلية وضعت عام 2004، عندما اتبعت سياسة "الضم الزاحف" لقطاع غزة باتجاه مصر، إما بإلحاقه كاملاً بها، أو تخصيص بعض أراضيها لحلّ مشاكله الاقتصادية والاجتماعية والسكانية.
ويتمثل ذلك بإضافة 600 كم من شمال سيناء لقطاع غزة لبناء ميناء ومطار، ومدينة يسكنها مليون فلسطيني، مقابل منح مصر 150 كم من النقب الجنوبي، وتقديم مساعدات دولية لها، وفتح نفق يمرّ عبر إيلات لربط الأردن بمصر برياً، فيما تمنح إسرائيل 600 كم من الضفة الغربية لاستقرار حدودها والدفاع عنها.
ومما قد يجعل إسرائيل تنجح بتسويق خطتها تجاه غزة الآن، مسألة التساوق مع قضية "الحرب على الإرهاب"، وترديد مزاعم بأن التنظيمات المسلحة التابعة للقاعدة لديها تواجد واضح في سيناء، وتصل غزة بسهولة، فيما تستطيع حماس الحصول على ما تريده من أسلحة وذخيرة ومتفجرات وتدريبات، ومع حرية الدخول من غزة إلى سيناء، تزيد احتمالات الهجمات المسلحة ضد إسرائيل نظراً لطول الحدود بينهما.
ومع ذلك، فإن بعض المحاذير الأمنية لهذه الخطة من شأنها تقييد وتقليص حرية التحرك الإسرائيلي استراتيجياً ضد غزة، بفعل تسلم مصر أي دور مباشر على أراضي القطاع، ورغم أنه في صالح إسرائيل ألا تعود مسئولة عن الأمور المعيشية للفلسطينيين هناك.
إلا أن ذلك في الوقت نفسه سيحرمها من القدرة على مراقبة حركة الحدود بين غزة ومصر، كل ذلك يؤكد أن نقل غزة إلى المسئولية المصرية هو مصلحة إسرائيلية، من خلال المسئوليات والضغوط الديموغرافية إليها.
وقد كان "دان ديكر" مدير مركز الشؤون المعاصرة ومحلل السياسة الخارجية في مركز القدس للشؤون العامة، الأكثر وضوحاً حين قال أن إزالة هذه الأنفاق "تحت الأرض" بين غزة وسيناء يعتبر تحركاً مصرياً استراتيجياً مدروساً، لأن الفلسطينيين سيستطيعون الآن عبر المعابر الرسمية "فوق الأرض" حماس، الوصول إلى السوق المصرية.
وقد يكون تلميحاً إلى عزمهم التخلي نهائياً عن الشيكل الإسرائيلي لفتح باب التجارة الكاملة مع مصر، واستخدام الجنيه، واستيراد النفط والسلع والبضائع عبر الأراضي المصرية، بعد أن أثبتت حماس أنها مسئولة بشكل كامل ومستقل عن أرض وشعب، دون أي منازع على السلطة هناك، معلقة على خطوة إزالة الأنفاق بالقول أن الحدود المفتوحة بين غزة ومصر تمثل حلماً قديماً للإخوان المسلمين في المنطقة كلها.
مع العلم أن استبدال الأنفاق الأرضية بين غزة وسيناء بإدخال البضائع بصورة علنية من مصر، قد يمكن إسرائيل أن تستكمل عملية فك ارتباطها عن غزة التي باشرتها في أيلول 2005، وتغلق حدودها مع غزة نهائياً، فتمنع دخول وخروج الأفراد والبضائع والسلع التجارية، بعد أن شهدت العقود السابقة، مفاوضات بين مصر وإسرائيل حول كيفية إدارة غزة خلال اتفاقية "كامب ديفيد.
لكن الرئيس المصري آنذاك أنور السادات رفض تولي مسؤولية القطاع، مصرّا بأن يتم إنشاء مركز أو مكتب للبعثة المصرية في غزة فقط لا أكثر، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي حينئذ "مناحيم بيغن"، رفض الطلب المصري أيضاً.
واليوم قد تضطر مصر، كما تعتقد أوساط سياسية في تل أبيب، في حال إقفال الحدود بين إسرائيل وغزة، إلى لعب دور الراعية الأمنية للقطاع، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنها قادرة على توفير المواد الغذائية والخدمات لأهالي القطاع، بجانب تزويدهم بالوقود والماء والكهرباء ومواد البناء.
ومع ذلك، فإن هناك جملة من التبعات لتعديل العلاقات بين مصر وغزة على إسرائيل، بجانب مخاطر محتملة تهدد العلاقات المصرية الإسرائيلية، وفي حال اضطرار مصر إلى تحمل مسؤولية قطاع غزة، يغدو على إسرائيل أن تقيّم جيدا أي رد عسكري تريد القيام به ضد الأعمال المسلحة التي تقوم بها حماس من القطاع، أي أن حرية التحرك الإسرائيلية استراتيجياً قد تتقلص بفعل تسلم مصر أي دور مباشر على أراضي غزة.
هنا يبدو قراءة موقف حماس بصورة مثيرة فعلاً، لأنها أكدت في غير مرة أن النظام المصري السابق هو الذي يحاصر غزة من خلال إغلاق الأنفاق في بعض الأحيان، وشنت عليه حملات إعلامية ودعائية، في حين أنها التزمت الصمت، أو عبرت على استحياء عن موقفها المعارض لقرار مصر اليوم بذات الخطوات، بل إن الخطوات هذه الأيام أشد وأكثر إيلاماً.
ومع ذلك، فإن الحركة ليست غافلة عن أن هذه الإجراءات تتم من قبل الدولة المصرية المحكومة من قبل الإخوان المسلمين، وهو ما يجعلها في حالة حرج شديد أمام جمهورها المحاصر في غزة.
أخيراً..فإن كل ما ورد من تفسيرات ميدانية وتحليلات عملياتية لإغلاق الأنفاق بين غزة وسيناء، دفعت بارتفاع المزيد من الأصوات الإسرائيلية المطالبة بتوسيع قطاع غزة جنوباً نحو مناطق سيناء والعريش والشيخ زويد، تطبيقاً للانفصال النهائي عنه، وإقامة حدود ثابتة غير قابلة للاختراق، وما يتطلبه ذلك من تفعيل لمعبر رفح قدر الإمكان ليستجيب لاحتياجات الغزيين، بما يتطلب من مصر إزالة جميع المظاهر غير القانونية في المناطق المذكورة، وعلى رأسها الأنفاق الحدودية!
*دراسة أعدها الدكتور عدنان أبو عامر، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة-فلسطين

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)