حلم الانفصال والدور الوظيفي
الاستثناء والقاعدة
لا يكاد يصح أن تذكر دولة جنوب السودان بمنأى عن إسرائيل. كما لا يمكن النظر إلى دولة جنوب السودان بعين، إلا والعين الأخرى تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط حيث فلسطين المحتلة. هي إذن إسرائيل راعية الدولة الوليدة في جنوب السودان.
من لا يضع في سلم أولويات منطقه هذا الفهم، لا يمكن إدراك كيف يستقيم لدولة احتلال عنصرية كإسرائيل أن ترعى حقوق شعب آخر "جنوب السودان" يقول عن نفسه انه مضطهد ويطالب بالاستقلال.
وحتى لا يعتقد أن دولة جنوب السودان - التي يعيش أكثر من نصف سكان جنوب السودان في فقر مدقع – ابتكار إسرائيلي، نشير الى أن تجربتها ليست استثناء في العالم كدولة وظيفية، بل إن تجربتها تأتي متأخرة جدا عن التجارب الواسعة التي جرى إنتاجها قريبا من منطقتها الجغرافية وتحديدا في المنطقة العربية.
لكن ما هو استثناء هو أن تكون الدولة الراعية لدولة الوظيفة في الجنوب السوداني هي كذلك دولة وظيفية، أي "إسرائيل". من هنا لم يكن مفاجئا أن يحضر العلم الإسرائيلي بفخر في التاسع من يوليو 2011.
لقد أعيد صياغة المنطقة الجغرافية الواقعة في جنوب السودان على شكل دولة لتلعب عدة أدوار، سواء من حيث صفتها ككيان عسكري "يشاغل" السودان الام، ويستمر في إزعاجه، أو من حيث كونه الشوكة في حلق نهضة مصر، أو من حيث كون هذا الكيان يقوم على موارد طبيعية أهمها النفط الذي يتركز في الجنوب بما نسبته 85% من احتياطي السودان السابق.
لكن هذا ليس كل شيء. هناك الملف المائي، العصب الذي نجحت رعاة هذه الدولة في تحويله هو الآخر الى سلاح، لا يستهان به لمحاصرة مصر مائيا، وذلك بتوقيع دولة جنوب السودان الوليدة اتفاقية تعاون للبنية التحتية المائية والتنمية التكنولوجية مع إسرائيل.
جنوب السودان وإنتاج الهوية
إن الهوية التي تحاول دولة جنوب السودان انتاجها لنفسها، سواء بشقها الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي لم تكتمل بعد. ومن غير المرجح اكتمالها حتى عقود طويلة بالنظر الى ما هو مطلوب من هذه الدولة من أدوار.
ومثلما تقوم الدولة الوظيفية على مرتكزات أبرزها إعادة تشكيل دور جديد للجماعات المنتشرة، لتكون متناغمة مع الوظيفة التي أسست من أجلها الدولة بدأ بالفعل إعادة صياغة الكيان المجتمعي في جنوب السودان، لتتوافق مع الأهداف السياسية لرعاة الدولة، لكن من دون أن يعني ذلك تنمية مجتمعية للدولة إلا إذا كانت هذه التنمية من متطلبات الوظيفة نفسها.
إننا نتحدث عن مجتمع 80% منه مسيحيا، تمتلك زمام الأمر فيه قيادة كاثوليكية، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعهد القديم للديانة المسيحية، وهو ما يعني سهولة السيطرة عليه من قبل إسرائيل اليهودية.
في الوقت الذي كانت النخب العربية تدعو أنظمتها إلى استغلال طبيعة السودان الجغرافية وتحويلها الى سلة العرب الغذائية كانت إسرائيل قد وقعت بالفعل العديد من الاتفاقيات الفاعلة مع عدد كبير من الدول الإفريقية فحولت القارة السمراء الى خزان استراتيجي لها تغرف منه ما تشاء مصالح وموارد.
لكن ما كانت تريد إسرائيل تحقيقه من هذه الاتفاقيات سواء مع دولة جنوب السودان أو غيرها من الدول الافريقية هو الإحاطة بالملف الأمني لتكون هذه الدول كنانة إسرائيل ورمحها الموجه الى مصر والسودان معا.
لقد انتبهت إسرائيل مبكرا للسودان، وعلمت انه يمكن أن يلعب دورا مهما في النهوض العربي، فأسرعت الى التحالف مع خاصرته الضعيفة "الجنوب" وعظمت من تمرده، وحمت قيادات هذا التمرد وساهمت في تقويته من أجل "لحظة مصرية" تدرك إسرائيل إنها قادمة وان طالبت.
لقد استعدت إسرائيل جيدا للحظة المصرية المتشكلة حاليا، وكان لها ذلك، فالإرهاصات المصرية الراهنة - إن استقر الأمر لديمقراطية مصر الوليدة – تؤشر على قرب التفات مصر نحو خاصرته الضعيفة - السودان – والبدء في معالجة تعقيداته.
واستعدت إسرائيل مبكرا لضمان عدم السماح للسودان رغم بعده عنها جغرافيا، "أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده إن استُثمرت في ظل أوضاع مستقرة فستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب". على حد تعبير وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الاسبق أفي ديختر، في محاضرة ألقاها عام 2008 تحت عنوان أبعاد الحركة الإستراتيجية الإسرائيلية المقبلة في البيئة الإقليمية.
اليوم – وكما طالب ديختر – استطاعت إسرائيل إنتاج دولة جنوب السودان – بعد أن حولت مشاكل السودان الى معضلة يصعب حلها. وهو ما بشر به وزير الامن الداخلي الاسرائيلي الاسبق افي ديختر.
بالنسبة الى أمنها اسرائيل لا تمزح وهو ما فهمه ساستها جيدا، ومن هنا ارتفعت نسبة البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في أفريقيا بالمقارنة مع بعثاتها في العالم الى ما يزيد عن الـ 50% في حين بلغت نسبة العلاقات الدبلوماسية الأفريقية الإسرائيلية بالمقارنة مع نسبتها بالعالم نحو 30%.
وساهمت اسرائيل بشكل فاعل في تدريب وتسليح المجموعات العسكرية والمليشيات القبلية عبر شركات حماية أمنية، وهو ما ساهم في توسيع دور جيش المتمردين ولاحقا جيش دولة جنوب السودان لتقوم الدولة الوليدة بدفع فاتورة دعم اسرائيل لها، وهي تفعل ذلك وستبقى تفعله نظرا للتغلغل الاسرائيلي في هذه المنطقة الحيوية من افريقيا، ليس فقط لكونها خزانا نفطيا لا يستهان به بل اكثر من ذلك كونها ركن افريقي يشكل مرتكزا لتحرك اسرائيلي نحو اي المناطق الافريقية المراد استهدافها وعلى رأسها السودان الشمالي ومصر.
خلاصة
نعرف أن تقسيم السودان يحقق لاسرائيل الكثير من المكاسب والمصالح ذكرناها سابقا؛ و ها هي السودان في ظل الخريطة الجيو سياسية الجديدة تتهاوى أمام أعيننا وسط عجز عربي مخجل ينذر بسقوط مزيد من الدول العربية في براثن التقسيم والتفتت؛ لتتحول إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، وتفسح المجال أكثر أمام القوى المتربصة بها؛ لتزيد من سطوتها وشهوتها الاستعمارية، بينما لا تكف الاهداف الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية الاسرائيلية بالنظر الى افريقيا بانها خزان كنز لا ينضب، وهي تعمل على ذلك طوال الوقت غفل العرب عن افريقيا عقودا الى ان جاءت لحظة اصبحت الدول الافريقية بالنسبة الى الدول العربية كعب أخيل.
لا شك أن نفصال جنوب السودان عن شماله والإعلان عن قيام دولة مستقلة فيه بمثابة الحلم الذي ظل يراود قادة اسرائيل لعقود طويلة خاصة وأنهم يحلمون بوجود كيانات صغيرة تكون أقرب لها وتقف على مسافة واحدة معها من العداء والخلاف مع العرب . وبالتالي؛ يأتي تطبيع اسرائيل مع "جنوب السودان" ليخدم قادة تل ابيب للتآمر على العرب، ووجود سفارة اسرائيلية هناك يضاعف المخاطر، والحذر السوداني مطلوب أكثر من السابق .كما يتوجب ايجاد آلية عربية سريعة وحازمة تعمل تحت مظلة الجامعة العربية للتعامل مع الخروقات الاسرائيلية من جانب هذه الدولة الوليدة، بهدف حفظ استقرار الأمن القومي العربي الذي بات مستباحاً ومهددا من ناحية الجنوب أكثر من اي وقت مضى.
ما يُتخوف منه، هو أن تواصل إسرائيل لعبتها في أفريقيا وتواصل العمل على تفتيت الدول العربية – كما حصل في السودان- ما يحقق أغراضها العدوانية ضد هذه الأمة، وضرب المسمار الأول في وحدة السودان، من خلال اقتطاع الجنوب، تطمع إسرائيل في أن يتكرر ويستنسخ في مناطق سودانية أخرى وفي دول عربية أخرى.
*إعداد: خالد وليد محمود