آخر الأخبار
 - منذ أن وطأت قدماي أرض مالي هذه الأيام وأنا ألحظ الحيرة بادية على وجوه السكان، فالاستعداد للحرب أكثر من الاستعداد للسلم، والبلد مهدد بالانفصال...

الثلاثاء, 15-يناير-2013 - 12:47:08
مركز الإعلام التقدمي- معهد العربية للدراسات -

منذ أن وطأت قدماي أرض مالي هذه الأيام وأنا ألحظ الحيرة بادية على وجوه السكان، فالاستعداد للحرب أكثر من الاستعداد للسلم، والبلد مهدد بالانفصال إذا طالت حالة اللاحرب واللاسلم التي مضى عليها قرابة العام بعد الإطاحة بحكم الرئيس أماندو تراوري في مارس 2012.
الحكومة تحكم في ثلث مساحة البلاد، والجهاديون وجماعة القاعدة يسيطرون على ثلثي المساحة، حيث توجد منطقة الشمال ومدن تومبكتو وغاو وكيدال. وفي الأسابيع الأخيرة انطلقت المفاوضات بين الحكومة والثوار عن طريق الوسطاء لكنها لم تؤد إلى نتيجة إيجابية.
ومنذ 10 يناير 2013 شن الجهاديون هجوما على مدينة كونا الواقعة تحت نفوذ الحكومة، وتقهقر الجيش المالي، وبعد يوم تدخلت القوات الفرنسية فكانت معركة طاحنة مات فيها أكثر من مئة شخص من الطرفين (حسب وكالات الأنباء العالمية في 13 يناير 2013)، كما أسقط الثوار طائرة هيلوكبتر فرنسية توفي سائقها مباشرة. وبدأ الفزع ينتشر في صفوف السكان وفي صفوف الجاليات الأوروبية وخاصة الفرنسية. وذكر لي عديد الأجانب هناك أنهم بصدد حزم حقائبهم لأن شبح الحرب والتدخل العسكري أصبح أمرا واقعا. فهل سيقضي التدخل العسكري المالي الفرنسي على نفوذ القاعدة والجهاديين في الشمال؟ وما انعكاسات الصراع الحالي بين الحكومة والثوار على المستوى المحلي والإقليمي والدولي؟
الجهاديون ينتعشون من ضعف الدولة
أثّر عدم الاستقرار السياسي لمالي في قدرتها على مواجهة الانفصاليين وخطر القاعدة في شمال البلاد. هذا الشمال الذي يتضمن ثلثي المساحة وعُشر السكان (حوالي مليون ونصف ساكن) أصبح مسرحا لنشاطات التيارات الجهادية بمختلف ألوانها المحلية والأجنبية.
ويمكن تلخيص المشهد الجهادي في الشمال في ثلاث تيارات رئيسية:
أولا: القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، موجودة منذ 2007 وتحتوي على حوالي 1200 مقاتل، معظمهم جزائريون وفيهم عناصر من موريتانيا وليبيا وتونس والمغرب، كما يوجد ضمنهم عدد قليل من الأوروبيين والأمريكيين حسبما أفادني به أحد الماليين الذي اختُطف مؤخرا من طرف القاعدة وأفرج عنه بعد ذلك. وسنتعرض في مقال آخر لملابسات هذا الحادث.
ثانيا: حركة أنصار الدين، وقد تأسست في 2012 ، وهي التنظيم المحلي الوحيد المتكون من ماليين معظمهم من الطوارق بقيادة إياد أغ، وينحدر هؤلاء من قبائل الإيفوغاس وايدنان. ويضم هذا التنظيم حوالي 2500 مقاتل.
ثالثا: حركة التوحيد والجهاد، تأسست كذلك في 2012 ويسمى أنصارها بـ '' الموجاو'' وتضم حوالي 1000 مقاتل. وتتكون "جماعة التوحيد والجهاد" من عناصر معظمها أجنبي عن البلاد، وتتوزع كالآتي:
- هناك 300 مقاتل من البوليزاريو
- هناك 200 من جماعة بوكو حرام ( نصفهم من بوكو حرام نيجيريا والنصف الآخر من بوكو حرام السينغال وهي مجموعة ظهرت مؤخرا بهذا البلد)
- مئات من الطوارق والعرب الماليين.
- عشرات من جنسيات مختلفة ويتكوّنون، حسب مصدر استجوبته، من تونسيين وجزائريين وليبيين ومصريين ومغاربة وباكستانيين إلخ.
وبالتالي، يمكن القول إن المقاتلين الجهاديين، بمختلف أصنافهم، لا يتجاوزون 4200 مقاتل بقليل، وهي المرة الأولى التي يبلغ فيها الجهاديون مثل هذا العدد في شمال مالي، وذلك بفضل التحاق عدد لا بأس به من الغاضبين المحليين بصفوفهم . أما الجيش الرسمي المالي فلا يتجاوز عدد جنوده وضباطه سبعة آلاف جندي (7000 جندي)، وهذا الجيش منقسم في ولائه بين أنصار الرئيس السابق المُطاح به أماندو تراوري، وقائد الجيش الحالي سنوغو، وهما طرفان تشقهما تناقضات عديدة وصراعات حادة. وبالإضافة إلى ذلك فالجيش الرسمي يفتقد إلى أسلحة متطورة وخاصة إلى الحرفية ولا يستطيع أن يربح معركة إلا بتدخل أجنبي مثلما حصل في مدينة " كونا" المذكورة آنفا. فما هي قدرة الجيش في استعادة سلطته في الشمال؟ وما هي تداعيات هذا الصراع وطنيا وإقليميا ودوليا؟
تداعيات الصراع المالي وطنيا وإقليميا ودوليا
لا أحد يتكهن بنهاية قريبة للصراع رغم ما يجري حاليا من معارك شرسة في "كونا" ومدن الشمال مثل تومبكتو وغاو، إذ تقهقر الثوار بالأمس تحت ضربات الطائرات الفرنسية المكثفة. لكن على المدى المتوسط والبعيد فإن التداعيات ستكون أعمق.
فالجيش المالي يحاول إعادة تسليح نفسه، والقوة العسكرية الإفريقية التي أنشأتها مجموعة "السيداو" وتضم 3300 جندي لا تستطيع أن تقاتل لوقت طويل، فعناصرها لا يعرفون بشكل جيد تضاريس الميدان، ولا يُحرّكهم وازع الدفاع عن الوطن باعتبارهم ينحدرون من بلدان إفريقية متعددة (تساهم نيجيريا لوحدها بـحوالي 1600 مقاتل، والبقية من التشاد والنيجر وساحل العاج وبوركينا فاسو والبينين).
ويبدو أن التعاون الاستخباراتي واللوجستي الذي تقدمه حاليا الولايات المتحدة والاتحاد الأروبي لفرنسا والحكومة المالية سيحسم الأمر لصالح الحكومة الشرعية في باماكو. لكن السؤال المطروح، هل تم التحضير جيدا لمرحلة ما بعد الحرب والتي ستتسم بتحديات اقتصادية واجتماعية وأمنية كبرى؟ وأين سيذهب الجهاديون وأنصار القاعدة إذا تمت ملاحقتهم في شمال مالي وهذا هو المرجح؟ هل سيبحثون عن ملاذ آمن جديد في صحاري النيجر والتشاد كما يشاع، أم أنهم سيتفرقون في المناطق الصحراوية الوعرة التي يصعب على الجيوش الكلاسيكية اقتحامها، مثل ميناكا وبيبرا اللتان توجدان بين منطقتي غاو وكيدال؟ وهل أن تحقيق الحكومة المالية المسنودة بالقوات الفرنسية، لانتصار عسكري متوقع على ثوار الشمال سينهي تواجد القاعدة والجهاديين عموما في هذه المنطقة.
إن تكتيك القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وبقية التنظيمات الجهادية يتمثل في التخطيط لحرب استنزاف طويلة الأمد حسب بعض التقارير، هذه الحرب ستعتمد على التحصّن بعدة أماكن تصعب مراقبتها، ويمكن أن تلتجأ خلايا القاعدة إلى بعض العمليات النوعية كزرع المتفجرات ومواصلة خطف الأجانب في مالي والدول الإفريقية المجاورة، والسعي إلى التنسيق مع الجهاديين في المناطق المغاربية والإفريقية الأخرى. وهم اليوم في حاجة ماسة إلى جمع ما خزّنوه من أسلحة زمن سقوط القذافي والذي مرّ جزء منه من ليبيا إلى تونس.
ويرجح أيضا أن تكون من بين تكتيكات القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي استهداف القوى المشاركة في الحرب ضد الجهاديين في مالي.
إن ما يحصل حاليا في مالي ستكون له بالتأكيد تداعيات محلية وإقليمية ودولية. فعلى الصعيد المحلي يُنتظر أن تفجر هذه الحرب التناقضات القديمة والحديثة بين السلطة ومجموعة الطوارق، كما أنها ستؤخر استراتيجية التنمية الاقتصادية للمناطق الفقيرة لسنوات، لأن أكثر اعتمادات الميزانية مخصصة للحرب (حوالي 500 مليون دولار سنويا). وبخصوص التداعيات الإقليمية فإن المنطقة المغاربية والإفريقية ستبقى لمدة لا بأس بها، في حالة استنفار بسبب متابعة نشاط هذه التيارات الراديكالية التي ستحاول التموقع في المناطق التي تشهد هشاشة أمنية، ويُتوقّع في هذا الإطار أن تشهد بعض البلدان الإفريقية والمغاربية اضطرابات أمنية.
أما في المستوى الدولي فإن تورّط فرنسا في حرب طويلة المدى سيكلفها خسائر بشرية ومادية وأزمات سياسية، ويمكن لفرنسا الحد من هذه الخسائر إذا نجحت في جمع الفرقاء الماليين من كل الاتجاهات حول مائدة التفاوض بما في ذلك ثوار الشمال من أهل البلاد (أي أنصار الدين) لا من الوافدين عليها، (مثل القاعدة وحركة التوحيد والجهاد) للاتفاق حول خارطة طريق تحقق الاستقرار والتعايش والديمقراطية. وأخيرا يمكن القول إن الحل العسكري في مالي لا يكفي لوحده للقضاء على الإرهاب. وسيبقى الجرح المالي قائما طالما غابت التنمية في المناطق المهمشة، وطالما تدحرجت لغة الحوار، وطالما بقي من يوظف الدين في حل الصراعات السياسية والإثنية.
أعد الدراسة أعلية علاني .. أكاديمي تونسي.

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)