آخر الأخبار
 - امريكا

الثلاثاء, 13-نوفمبر-2012 - 16:06:52
مركز الإعلام التقدمي -

الآن يمكن فهم جانب من الأحداث الجسام التي بدأت في نهاية عام 2010 في تونس وامتدت إلى عدد من الدول العربية الأخرى. ولكي لا يحدث أي لبس، فهذه الأحداث الجسام بدأت شعبية جماهيرية ضد أنظمة استبدادية. غير أن هشاشة الأنظمة الاستبدادية التابعة لواشنطن، وقفز تيارات الإسلام السياسي على ثورة الشعوب، وضعف أو غياب التيارات السياسية الأخرى وسذاجتها السياسية والتنظيمية، وانتهازيتها وانعدام خبرتها بإدارة الدولة – كل ذلك ساهم في انفراد تيارات الإسلام السياسي بالحكم بعد أن مهدت لها الأنظمة السابقة التربة الخصبة من فقر وجهل وأمية وتجريف للمؤسسات والطاقات وتصحير للموارد. في هذا الصدد تحديدا، واستنادا إلى العلاقات التاريخية بين هذه الأنظمة وبين الإدارات الأمريكية المتعاقبة وأجهزتها الأمنية والدبلوماسية، تمكنت واشنطن بمرونة شديدة من دفع الأمور في اتجاهات أخرى تماما بدعم الأنظمة الجديدة/ القديمة واستحداث ترسانة من المصطلحات لتسويقها. ومن الواضح الآن أن الإدارة الأمريكية شخصيا هي التي تقود مكتب الإرشاد وقصر الاتحادية في مصر. ومن الواضح ايضا أن هناك رضاء أمريكيا كاملا عن أعداء الأمس من "إسلام سياسي" و"إسلام جهادي".
قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية بخمسة أيام فقط، التقيت فيكتور كريمنيوك نائب رئيس معهد الولايات المتحدة وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية . سألته عن أسباب صعود نجم تيارات الإسلام واحتمالات الرد من جانب الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. قال الرجل في هدوء: "الأوضاع في العالم العربي وضعت واشنطن في موقف صعب ومعقد للغاية. فالولايات المتحدة أخذت على عاتقها دعم إسرائيل. وهذه أولوية واشنطن رقم واحد. حتى وإن كانت هناك علاقات صداقة مع السعودية أو مصر، فأهم شيء بالنسبة للولايات المتحدة هو دعم إسرائيل. ولكن ما يجري اليوم، يجبر واشنطن على إعادة النظر في هذا المبدأ.. فهل يجب أن تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكل دائم؟ نحن نعرف ماذا قال رومني. لقد قال إن القدس هي عاصمة إسرائيل. ما يعني أن هذا الوعد هو دعم ثابت ودائم لإسرائيل، وعدا ذلك سيكون مجرد تفاصيل يمكن مناقشتها فيما بعد. ولكن أوباما يمثل بحد ذاته علامة استفهام كبيرة. فهو يمكنه أن يتفادى هذا الموقف الصارم أو الحاد. إنه لن يتخلى بطبيعة الحال عن إسرائيل أو يخونها، ولكنني لا أستبعد أن حل المشكلة بالنسبة لإسرائيل يكمن في الحوار بينها وبين العالم العربي. هنا يمكن أن يتخذ أوباما موقفا صارما ويقول لأصدقائه في إسرائيل، كفاكم حروبا، تعالوا لنجد مخرجا من الوضع الراهن. وأنا أعتقد أن في إسرائيل عقلاء سيوافقون على تفادي الحرب والبحث عن حلول".
غير أن الإجابة كانت بعيدة جدا، أو بالأحرى مختفية وراء عبارات ذكية. فكررت السؤال مرة أخرى من دون أن أغير فيه حرفا واحدا. وعندما رأى أنني اطلب إجابة مباشرة، ابتسم. وقال: "إن واشنطن لا تتحدث الآن عن شيء اسمه الإسلام السياسي، بل تتحدث عن صعود الإسلام الجديد، الإسلام الديمقراطي". وأكد مرة أخرى وهو يهز رأسه في إصرار: "نعم، هناك إسلام جديد ديمقراطي صاعد بقوة ويلقى ترحيبا من واشنطن. وهو قادر على الإدارة وإقامة التحالفات. وسيلقى دعما كبيرا من الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية الأخرى".
أعتقد أن الأمور واضحة تماما، وأن الولايات المتحدة قررت استبدال الأنظمة الاستبدادية (التي كانت ديمقراطية من وجهة نظر واشنطن حتى سقوطها) بأنظمة (إسلامية ديمقراطية!!!). أي أن واشنطن أقنعت نفسها بذلك، وتسعى لإقناع العالم بأن الأنظمة الدينية التي استولت على السلطة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أنظمة دينية ديمقراطية جديدة. وبالتالي، دفعت بمصطلح الإسلام السياسي إلى الوراء ليحل محله مصطلح (الإسلام الديمقراطي الجديد!!).. غير أن فكرة الدولة الدينية القائمة على شرائع سماوية عموما، والدولة التي تقوم على دساتير مستمدة من الكتب الدينية، هي أصلا فكرة إقصائية رجعية عنصرية. هذه الدولة فاشلة بحكم قوانين التاريخ والتطور. وعموما هذه الدولة مجرد مرحلة انتقالية سوف تستفيد منها الولايات المتحدة جيدا. ولكن عندما تبدأ مظاهر انهيارها على أرض الواقع، ستظهر الكارثة الكبرى التي ستكون عبارة عن نتائج فظيعة من حروب أهلية وطائفية وتفجيرات وانهيارات وبحار من الدماء. وأعتقد أن واشنطن لا يهمها من قريب أو من بعيد ما يجري في داخل هذه الدول الدينية (بالضبط مثلما كان يجري في عهد النظم الاستبدادية التي كانت تدعمها الولايات المتحدة وتبرر لها كلما تفعله بمواطنيها وبحياتهم وبمستقبل أولادهم)، بقدر اهتمامها بأن السلطات الدينية تابعة لها بهذا القدر أو ذاك الذي يضمن مصالحها ومصالح حلفائها.
وربما للأسباب السابقة تحديدا، نجد أن الأنظمة الدينية الجديدة تتعامل بوقاحة سياسية ودينية منقطعة النظير، سواء مع الشعوب أو مع القوى السياسية الأخرى. بل وتكرر في كل تصريحاتها وإعلاناتها، بشكل ضمني، ما قاله مبارك: "أنا أو الفوضى". هكذا تكرر تلك الأنظمة المتعجلة في فرض سيطرتها، وفرض عمليات الإحلال والتمكين، نفس العبارة "أنا أو الإرهاب والحروب الأهلية والطائفية وانهيار الدولة"!
هكذا نشاهد بأعيننا الآن أنظمة دينية جديدة/ قديمة تواصل نفس المناهج والسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والضرائبية والتشريعية والثقافية التي كانت تنتقدها وتهاجمها، ولكن هذه المرة تحت غطاء الدين الذي يحرم تحريما قاطعا انتقاد أو معارضة أولي الأمر، وهو ما يريح واشنطن لسنوات طويلة إلى أن تتحرك السيناريوهات خطوة جديدة إلى الأمام. ولا ندري سر هذا التصالح "الرقيق" بين الإدارة الأمريكية وبين مجموعات وتنظيمات كانت واشنطن تحاربها، وما زالت تعلن أنها غير راضية عنها إلا إذا أصبحت "ديمقراطية"، أي "مطيعة" بلغة المصالح والأمن! والتساؤلات التي تطرح نفسها بقوة: هل الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية بعيدة عن تحركات الجماعات الجهادية المتواجدة حاليا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ هل الأنظمة الدينية في المنطقة بعيدة عن هذه الجماعات والمجموعات فعلا، أم أن سياسة اختراع "البعبع" لا تزال تتواصل من أجل القبول بما تطرحه الأنظمة الجديدة / القديمة من دساتير وأفكار دينية وأشكال متخلفة للدولة وإلا ستتعرض البلاد لهزات قوية على أيدي الجماعات المتطرفة؟!! هكذا يمكن أن ندرك مبدئيا، لماذا بدأت الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية والعربية في تنحية مصطلح "الإسلام السياسي" ليحل محله مصطلح "الإسلام الديمقراطي الجديد"!


د. أشرف الصباغ


أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)