آخر الأخبار
 -

الأحد, 01-إبريل-2012 - 12:03:33
مركز الإعلام التقدمي- محمد خليفة: -

 الإنسان هو المحور الذي ترتكز عليه أية حضارة، ولذلك صار لكل أمة حضارة تنسب إلى مجموع أفرادها بالمعنى الإنساني. وبهذه النسبة جرى إطلاق اسم الأمة على الحضارة التي ينتمي إليها صانعوها، فالناس في أي أمة مأخوذون بالأحكام المسبقة التي تبرمجوا بها بالتنشئة، ويظلون أسرى لها مهما كانت ظالمة وخاطئة وبعيدة عن التحقق.


 فمن المعروف أن الناس تتشكل عقولهم وعواطفهم بما نشأوا عليه، وهم في الغالب لا يراجعون هذا التشكل، ولا يتشككون فيه، وهذه من أكبر معضلات المجتمعات العربية التي تخنق الحقائق، لأن الأهواء المتشكلة تسيطر على العاطفة والروابط الروحية المحضة.


 فالأمة العربية ذات وجود روحي يكاد يكون مطلقاً في روحانيته، تنظمه روح الفراغية فوق الوعي، وتسيطر من خلال هذه الدوائر المعتمة، ويدفع ثمن الانعتاق منها الإنسان العربي اليوم ثمار الاستبداد. لذلك كشفت رياح التغيير التي هبّت على عالمنا العربي كوارث ادخرت لدعم الاستبداد وكشف قابلية الفظاعة على الرضوخ واستمراء الفساد.


 هذه الدائرة المعتمة يدفع الشعب العربي ثمن الانعتاق منها بسبب استمراء القمع والظلم الجاثمين منذ أمد بعيد نتيجة الظاهرة العربية المدمرة، التي ورثها الإنسان العربي نتاج القيم التي اختزلت هذا التراكم إلى معطيات عوامل الجمود العقلي والاجتماعي، وإشكاليات السلطة الدكتاتورية في العالم العربي المعاصر، من نظرات بعيدة وعميقة على واقع الاختلافات في تاريخنا الفكري- السياسي وما يحيطها الآن من مأثورات فكروية تستنهض بها قوى تصارعية، كأن حاضر هذه الأمة مجرد نسخة من ماضٍ قريب خاوٍ من كل مسألة عقدية، وتلاحق سلاسل اعتقادية اعتراضية وأسباب مذهبية شاغلها النظري جلب الإمامة أو السلطة؛ في عقل استبدادي يعرض الانفصام في عقلية تاريخية ذات نزعة اعتقادية حول شخصية الإمام الحاكم بأمر الله، عندما رفعه دعاة المذهبية البغيضة إلى درجة التنزيه من الناحية التأويلية الباطنية في مستوى قدساني يفوق مستوى غيره من أبناء البشر، وذهبوا إلى أعمق من ذلك فقالوا إن الحاكم معصوم عصمة ذاتية؛ حتى اعتقد العامة من الناس أنها مسألة تأليه على مستوى من التخييل الاعتقادي، التي تراكمت عليها طبقات تاريخ طويل من نظم الحكم والقيم والمعرفة على مدى أكثر من ألف سنة أو يزيد.


 والنظر في جذور اللاحرية والظلم والقهر الذي عاناه أبناء الأمة العربية ولم تزل ظلاله وأصداؤه المعتمة تتردد في صرخات الشكوى والأنين التي تنبعث وراء سياجات العالم العربي الذي تنتهك أستاره تحت الغيمة السوداء والعشق المجلود بالريح وأشواك العقارب.


 إن ما يحدث الآن من نزعات التدمير والتخريب الهمجي في بعض الدول العربية التي اندلعت فيها انتفاضات وثورات شعبية يؤكد أن ثمة قابلية للاستبداد لدى قسط كبير من الشعوب العربية، فالطاغية لا يمارس البطش والقمع بنفسه وإنما بأيدي شرذمة من جنس هذا الشعب، ولا يطلق الطاغية النار بيده على المتظاهرين العزل لقتلهم وإرهاب الآخرين، بينما يقوم التابعون الذين يتفهمون رغبته ويمارسون مهمة القتل والتعذيب والتدمير بإخلاص وإتقان، كأنه شيء عام ومألوف بينهم، لأن ثمة استعدادات نفسية فردية وجماعية للانهماك في دائرة النظام القمعي- تغذيها شهوات تبادل المصالح- من أجل تمكين المستبد من ترسيخ هالته الأسطورية ونقلها إلى رحاب المقدس، ليس هذا فحسب، فهذه الهالة تسبق الحدث وتضمن بقاءه وإن كان مريضاً أو مجنوناً، بذلك تكون مؤسسة الفعل المقدس جعلته بقوة الاعتقاد عبر عملية غسل طويلة ومستمرة للعقول، ومحاولة محو لكل ما تبقى من قيم الحق.


 فالحاكم طالما بيده السلطة فهو فوق البشر، وحقيقته تعلو التقدم العقلي والمادي والاجتماعي، وبذلك يصبح مقدساً، وتتجلى فيه الحقيقة المطلقة في الحقائق الاعتقادية والسياسية بين الفقه الديني، والسلوك السياسي في المنظومة العقلانية، وعلاقاتها بالمنظومة العقلية المحضة، وتناقضاتها مع النظم الفكرية العلمية.


 وأمام كل هذه الظواهر يتفكر العقل العربي حتى في صمته وفي كبته، ويتعاطى الظن والكذب في ثقافته السلطوية، ويتوه بين الحق والظن معاً، ثم ينتج معاني فاسدة أخلاقية لا أساس لها في الواقع، فتراه مع ذلك يرفعها إلى مصاف الحقائق الاجتماعية الأخلاقياً.


 وقد يضفي على بعضها صفة القداسة، بحيث ترتفع في وعي الجماعات ومخيالها الثقافي إلى مرتبة الحقائق المباشرة، بل علم اليقين الذاتي في اللاشيء واللامعنى نتيجة إهمال انثروبولوجيا الأحداث المسكوت عنها في التاريخ العربي؛ لتبقى المرجعية السلطانية وعلى طريق النص الاعتقادي ذاته وتحديداً بين المرجعية الدينية والسياسية والسلطوية، ومنها الأصوليات الدينية الجامدة في مستوى عقلها الديني من دون أن تتقدم خطوة باتجاه النقد العقلي الحر، وهي مشكلة الاعتقادية، الماضوية الأصولية في العالم العربي.


 ولهذا السبب ظهر الاستبداد في بعض البلدان العربية، وهو أسوأ أنواع الطغيان والاستبداد وأكثرها فتكاً بالإنسان العربي المحكوم بالعزلة والاغتراب والاستبداد الذي سيبقى داء معطلاً لحركة التقدم والتطور، وانحطاطاً يسود الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، وهو التخلف ودوامة التفليس والفوضوية.


 لذلك أفرزت الانتفاضات والتغيرات العربية نظماً أشد دكتاتورية وأمضى استبداداً من تلك التي ضحت بدمائها في محاربتها واقتلاعها، فأحالت الثائر العربي ليكون كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، كنبات البحر يلمح إلى الظلمات التي يحيا فيها هؤلاء الشباب الذين تحولوا إلى أرواح ضائعة كالأعشاب البحرية، ما أرخصها وما أكثرها في بحر الحياة.


 في مصر، كانت الانتفاضة ضد حسني مبارك تتوشح أردية الديمقراطية والحرية والمدنية، وما أن غادر مبارك المشهد حتى تداعت الأصولية على القصعة السياسية. والمسار في مصر ينذر بتطورات أكبر وأوسع جراء هذا التمزق، وتشويه القيم الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع.


 وفي تونس، بدأت تتآكل مشاهد الحرية لمصلحة طوائف دينية تريد أن تختزل ثمرة الثورة، وهدفها الرئيسي بث الرعب في نفوس المخالفين لها في الرأي، بهدف تزييف الواقع وخلط الأوراق حتى ينفرد وحدها بساحة المشهد السياسي.


 وفي اليمن الصورة باتت ضبابية، فكل الاحتمالات ترشحه لحرب أهلية ولمزالق كثيرة، لأن هناك جبهات لا تزال تنمو مثل القاعدة والحوثيين مستغلين فراغ الدولة.


 أما ليبيا فلا تزال روح القبيلة وتبايناتها ومظاهرها في المجتمع والواقع القبلي الداخلي له تعقيداته الخاصة، شعب مدجج بالسلاح يقود بلاده إلى حالات الهدم والمنازعات ويعوق إعادة بناء مؤسسات الدولة التي خربها النظام البائد.


 إنها معضلات وإشكاليات الحياة العربية التي تفرز الأزمات تلو الأزمات، فالأنفاس اليوم تلهث والأعصاب تتمزق، والجميع يحاول أن يستبق عجلة الزمن، ليستطلع دموية المأساة وهول الكوارث القادمة حتى تنتهي هذه الأمة نحو الموت وكأس النار في عتمة القبر.

أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS


جميع حقوق النشر محفوظة 2024 لـ(مركز الإعلام التقدمي)